حارث حسن ـ زيارة البابا وفكرة الأمة العراقية
بواسطة 2021-03-05 00:34:16

د . حارث حسن
قرأت اليوم الكثير من الاراء العراقية حول زيارة بابا الفاتيكان الى العراق، تنوعت بين المحتفل والمرحب والمتشكك والرافض، لكن كنت مهتماً ان افهم بشكل خاص الصنفين الاخيرين، المتشكك والرافض، ووجدت ان بعض الأصوات الممثلة لهما تركز على المغزى الثقافي للزيارة، وتتراوح بين من يراها تطفلا مدفوعا بدوافع دينية غير بريئة، وبين من يصل الى حد اعتبارها غطاءا للتطبيع مع إسرائيل!
من الطبيعي ان منزلة بابا الفاتيكان وسلطته المعنوية والدينية تقود الى التركيز على الجوانب الثقافية والهوياتية ونوع السردية التي تتأطر بها زيارته. وبالتالي، فلابد ان تصبح موضع صراع حول رمزيتها. لكن آراء الموقف المتشكك او المعارض تعكس مباشرة او ضمناً ذلك الميل الايديولوجي لالحاق فكرة “العراق” بهويات وصراعات واستقطابات تُمنح “جوهرانية” واولوية على هذه الفكرة، وهذا هو المأزق الايديولوجي-الثقافي الذي دخله العراق منذ صعود عصر الايديولوجيات فيه. فطالما انكرت تلك الايديولوجيات امكانية انتاج سردية عراقية-وطنية لأنها ستنتقص من السردية التي يعتنقها هذا التيار الايديولوجي او ذاك، فان كانت قومية (فالعراق فكرة قطرية)، وان كانت دينية (فصناعة سردية عراقية يعني احياء الماضي قبل الاسلامي)، او يسارية-نضالية (ففكرة العراق تصبح تزكية لمنتج استعماري ومشروع محافظ). الخ…
وما قد يكون مهماً هنا هو النظر في طبيعة السرديات المطروحة والمتنافسة اليوم حول الهوية في العراق، ويمكن اختصارها الى اربعة سرديات رئيسية: عراق المكونات (لا هوية له بمعزل عن اجزائه)، العراق الاسلامي (لاهوية له قبل دخول الاسلام)، العراق الشيعي (تحويل الهوية المذهبية الى هوية سياسية تدعي احقيتها بتمثيل "الأغلبية")، وعراق مكتف بذاته (فكرة الامة العراقية). ارى ان الفكرة الأخيرة هي الاقرب الى التماثل مع طبيعة الزيارة ، من حيث انها تحقق هدفين ينصبان بهذا الاتجاه، الاول تأكيد المساهمة التاريخية لأرض الرافدين في نشوء الديانات الابراهيمية، والثاني الاقرار بتنوع التعبيرات الابراهيمية وامكانية تعايشها عبر لقاء الضيف بالسيد السيستاني والمرجعيات المسيحية في العراق، والانتقال بين الجنوب وبغداد ونينوى وكردستان.
يحاول بعض الشباب اليوم احياء فكرة “الامة العراقية”، ليس كسردية اقصائية بل كمحاولة لترميم هوية تشظت بفعل التفتيت الرمزي والعنيف الذي انتجه صعود الايديولوجيات القومية والدينية والاثنية، الفرعية او العابرة للحدود. وعلى هذا المستوى، قد تلتقي زيارة بابا الفاتيكان مع مشروعهم، خصوصاً ان نجحوا بتأكيد ان “العراقوية” ليست هوية ضد الدين، بل مستوعبة له ولتعبيراته المختلفة.
لنتذكر هنا، ان السرديات والهويات ليست حقائق تاريخية، هي قراءات ذاتية للماضي، يتداخل فيها التاريخي بالميثولوجي، الواقعي بالرمزي، و بوسعها ان تتحول الى قوى تفتيت او توحيد، صراع او تعاضد، اعتماداً على اي عناصر في تلك الهويات يتم تأكيدها او ابرازها او حتى "اختراعها" ( لهوبزباوم اطروحة مفيدة هنا عن اختراع التراث). محاولة اعادة اختراع فكرة العراق باستيعاب تجارب الماضي القريب وبجعلها فكرة مستوعبة لا اقصائية، مواطناتية لا اثنية، هي مشروع طموح، لكنه مازال في طور تشكيل سرديته الثقافية، ولم يتبلور بعد كمشروع سياسي، فضلا عن ان يكون قوة سياسية فاعلة. هو في بداية الطريق، لكن لايمكن التقليل من ممكناته المستقبلية، ليس فقط بفعل تضاده مع السرديات الأخرى التي اخذت هيمنتها الثقافية تتراجع، بل وأيضا من حيث تجانسه مع حاجة "شبابية" لاكتشاف الذات الجمعية بطريقة مختلفة، وتوفر أدوات معرفية ومعلوماتية ما كانت متوفرة في الماضي بما اضعف من السلطة المعرفية التي اسهمت بانتاج السرديات السابقة.
شوهد المقال 103 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك