عثمان لحياني ـ دروس من التجربة التونسية
بواسطة 2021-01-16 00:33:33

عثمان لحياني
انقضي عقد من عمر الثورة في تونس ، عشر سنوات كان فيها الانتقال الديمقراطي صعبا ، ومخاض الديمقراطية أصعب بكثير مما كان يتصوره التونسيون .
في غضون شهر وبضعة أيام فقط ، (17 ديسمبر 2010 -14 يناير 2011)، نجح التونسيون في اسقاط نظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي ، بكل ما يحمله هذا النظام من صورة مركبة تراكمت على مدى أكثر من 23 سنة من الحكم البوليسي الذي تأسس على منظومة حكم تمتد تاريخيا الى عام 1958 ، بينما لم ينجح التونسيون بعد عشر سنوات من بدء المرحلة الجديدة في اتمام واستكمال البناء الديمقراطي ، واذا كانت الثورة قد وفرت أسباب الحرية والممارسة الديمقراطية في شقها السياسي ، فانها مازالت تبحث عن مخارج آمنة للتجربة الديمقراطية في شقها الاقتصادي والاجتماعي.
لم تكن الثورة في تونس نهاية عام2010 ، نتاج هندسة سياسية ومدنية واضحة ، لكنها كانت لحظة تفاعلت فيها كيميائيا عوامل الظلم والقهر الاجتماعي الذي شمل كل المناطق ، ومستوى فادح التفسخ و الفساد المالي ، مع تراكم كبير للمظلمة السياسية والقمع والتضييق على الحريات ، كان قد بلغ أوجه في تلك المرحلة، وفي جانب ثالث، فعلت الطفرة التكنولوجية فعلتها عندما تجاوزت نظام بن علي وأفقدته القدرة على مراقبة الفضاء العام والافتراضي ، وعندما حدث هذا التفاعل ، كان النظام السياسي قد فقد السيطرة على الوضع، لتتطور الثورة زمنيا وتنتقل مكانيا من مدن الهامش الى المركز وتدق حواضر النظام في العاصمة ومدن الساحل التي كانت تمثل الحاضنة الرئيسة لنظام بن علي.
أعطى الزخم الكبير الذي فرضته مدن الداخل والهامش ، محتوى اجتماعي للثورة كمسار مستمر ووضعته في مركزها ، بسبب المشاكل التنمية والعوز والتهميش، وعزز انخراط الأطر النقابية والسياسية في الثورة على النظام من قوتها، وأعطاها محتوى سياسي وثقافي بسبب شدة القمع والتضييق ، سيلعب هذين المحتويين الاجتماعي والسياسي محددات رئيسة في خط الثورة التي ستأخذ في السنوات التي تلت سقوط النظام مسار انتقال ديمقراطي، ثم في تقييم منجزها في مختلف مراحلها، وصولا الى انقضاء العقد الأول ، عما تحقق للتونسيين على الصعيد السياسي في علاقة بالحريات وبناء مؤسسات الديمقراطية ، وعلى الصعيد الاجتماعي والاقتصادي في علاقة بالخبز والتنمية .
مع كل المراحل والمحطات التي شهدتها تونس خلال العشر سنوات الأخيرة بدءا من 2011، والظروف الداخلية المتحكمة والعوامل الخارجية المؤثرة ، توفر التجربة التونسية دروسا سياسية بالغة الأهمية، لعل أبرزها أنه وعلى قدر صعوبة الاطاحة بنظام سياسي حاكم ، في لحظة ثورية واندفاع شعبي ، فان المهمة الأصعب بكثير ، هي اعادة البناء وتحقيق الانتقال الديمقراطي على أسس جديدة ، تتطلب توافق وتفاوض وتنازلات وتكيف وتفاعل على أساس مصلحة الدولة ومتطلبات المرحلة ، وأبعد من الحسابات الحزبية والايديولوجية .
يدخل في نفس السياق، تجلي سياسي يفيد بأن مغادرة رموز معينة للسلطة ، ورحيل شخوص النظام السابق والغاء مؤسساته التي كان يتركز عليها، لا تعني تماما نهاية تامة للنظام ، اذ تحتاج عملية تفكيك النظام السابق جهد أكثر ووقت أكبر، ذلك أن نظام بن علي في الحالة التونسية ، كما كل الانظمة التي تتحالف فيها السلطة الشمولية مع الكارتل المالي ، ركز شبكات البيروقراطية معقدة ومتداخلة المصالح ، يصعب تفكيكها في ظرف زمني قصير، ولذلك تبدو عملية الاصلاح ومحاربة الفساد وتعزيز أدوات الشفافية والرقابة وتطوير الادارات واصلاح المؤسسة الأمنية ، مسألة مازالت متعثرة بعض الشيىء في تونس ، وتحتاج الى جرأة أكبر لم تمتلكها الدولة التونسية في الوقت الراهن .
درس آخر أفرزته التجربة التونسية ، وهو أن التوافقات السياسية وعلى أهميتها في المرحلة التأسيسية ، لوضع قواعد العيش المشترك ، فان تركيز الأسس الصلبة للبناء الديمقراطي، وحده ما يحمي المسار من الأزمات الطارئة ، ويوفر الاطار لحل الخلافات واجتياز لحظات التأزم، وكان ذلك ظاهر بوضوح في تونس بعد حوادث الاغتيالات السياسية التي استهدفت سياسيين بارزين مثل شكري بلعيد في فبراير 2013 ، ومحمد البراهمي في جويلية من نفس السنة، اذ جنب الحوار الوطني وتنازل حركة النهضة تونس الانخراط في النفق المصري، وأمكن حماية المسار الانتقالي.
يبقى درس بالغ الأهمية في تونس ما بعد 2011 ،وهو أن تحقيق مكاسب الحريات ونزاهة الانتخابات والديمقراطية، وأن كانت بين أبرز مطالب التونسيين ومنجز ثوري يمكن أن يضع تونس في مصف الدول التقدمية في هذا المجال، الا أنها تبقى منجز لا يكفي، ويكاد يكون بلا معنى اذ لم يحدث منجز نظير له في المجال الاجتماعي والاقتصادي ، من حيث تحسين البنى التحتية في الصحة والتعليم والنقل ، خاصة في مناطق الهامش ، كما في الجنوب والشمال الغربي في تونس، اذ لم يعد للتونسيين مقدرة على الصبر أكثر لتحسين أوضاعهم المعيشية ، بل ان الاخفاق في ذلك بات يدفع الى معادلة " الحرية والخبز"، ويأكل من رصيد المنجز الديمقراطي.
خلال عشر سنوات تلقت تونس في خضم تجربتها الناشئة وعودا كبير من الاتحاد الأوروبي والدول الغربية المتحمسة لنموذج جديد من الديمقراطية في بلد عربي ، لكن هذه الوعود ظلت عند سقف المزايدة السياسية والاشتراطات ، والتدخلات أحيانا أخرى في الخيارات السياسية والاقتصادية ، يؤكد ذلك أن أي تجربة انتقال ديمقراطي في تونس أو في غيرها، يجب أن تركز على خصوصياتها المحلية لوضع حلول محلية أيضا للمشكلات والأزمات القائمة ، ولا يجب ان تربط استحقاقاتها بالتعويل على الخارج الذي يأخذ ولا يعطي .

شوهد المقال 202 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك