أحمد سعداوي ـ التهمة " الزندقة " مصطلح الأنظمة العربية
بواسطة 2021-01-12 01:52:23

أحمد سعداوي
اخترعت السلطة مصطلح "الزندقة" في فترة ما من الخلافة العبّاسية، وكان الأصل في المفردة اشتقاق معرّب من اسم كتاب الزرادشتية "الزندافستا".
التهمة بالزندقة التي كانت توجب القتل في عرف السلطة آنذاك ظلّت تتوسّع بالدلالة لتشمل أصنافاً عديدة من "معارضي" النظام الحاكم، فهي تبتدئ من المعارضين السياسين ولا تنتهي عند الشعراء الماجنين، حتى ما عاد للمفردة معنى محدّد، أو ربما يمكن تحديد معناها: بأن الزنديق هو كلّ شخص لا يرضى على النظام السياسي القائم. وبهذا لن يكون نافعاً أن تتساءل ما إذا كنت زنديقاً حقّاً أم لا، لأن المفردة بلا معنى، مخترعة من السلطة ومعبّاة بمعنى هي تريده فحسب.
.
شيء مشابه مارسته سلطة البعث القومجية الشوفينية تجاه الشيوعيين فوصفتهم بـ"الشعوبيين" وشمل الوصف لاحقاً عبد الكريم قاسم، ومصطلح "الشعوبي" بمعناه السلبي مستل من التراث السياسي الأموي والعباسي، ولكن جرى إحياؤه عند الحركات القومية العربية، وبالذات عند البعث لمواجهة خصومهم، الذين ابتدأوا بالشيوعيين ولم ينتهوا عند مواجهة الشيعة كمكون اجتماعي ومذهبي، واستخدمه صدام بكثافة في خطابه الاعلامي الدعائي العنصري خلال الحرب العراقية الايرانية ضد الخميني والنظام الايراني بشكل عام.
المصطلح إنتهى الى أن يكون بلا معنى مثل مصطلح الزندقة والزنادقة، لأن معناه الوحيد في عقل السلطة فحسب:
(إن الشعوبي كل واحد يعارضنا أو لا يشبهنا!.)
.
شيء مشابه كذلك حصل مع تهمة "حزب الدعوة" في الثمانينيات، حتى غدا كل شابٍ يصلّي أو لديه لحية خفيفة معرّضاً للاعتقال بتهمة حزب الدعوة، وتحوّل هذا الحزب المعارض الذي كان يندثر في المجتمع الى كيان هائل غير حقيقي طبعاً إلا في خطاب السلطة ورؤيتها.
كانت السلطة تستعمل اسم هذا الحزب بحرية كبيرة لتشمل تحته كل "الشيعة" الذين يعارضونها أو تشكّ في ولائهم.
.
حملت لنا أزمان ما بعد 2003 القبيحة والكريهة قائمة بتهم عديدة تصنعها السلطة تجاه معارضيها، تبرز لفترة ثم تتراجع من التداول العام، ولعل من آخرها تهمة "الجوكري". وهي ابتداع واختراع صرف قامت به السلطة لتعني وتقصد شيئاً لا وجود له على الأرض.
في البداية روّجت الماكنة "الولائية" الاعلامية والدعائية لهذا المصطلح ضد المتظاهرين، ولكن سرعان ما تلقّفه السيد الصدر ليقوم باستعماله هو الآخر. في البداية كنت متفاجئاً أن يستعير الصدر مصطلحاً من غرماء وخصوم ومنافسين له لطالمها اتهمهم بأنهم "وقحين" ودخل في صراع دامٍ معهم في أكثر من مواجهة، لعل من أواخرها ما حصل في مرحلة العد والفرز وحرق صناديق اقتراع الرصافة بعد انتخابات 2018.
لكن الاستغراب زال فيما بعد، حين انتبهت أنهما كلاهما، الصدر وما نتصور أنهم خصومه من الولائيين، كلاهما في مركب واحد؛ مركب السلطة. وهي هنا سلطة استبدادية كما سلطة بني العبّاس والأمويين وسلطة البعث، لا تعترف بمن يخالفها في الرأي، ولا تتقبل وجود المعارضين.
هي سلطة تستثمر القوة والنفوذ لاختراع مفردات وتهم والترويج لها. وتسعى لتحويلها الى أمر واقع. وهذه سنّة تاريخية واضحة على ما يبدو.
.
لن يضير العراقيين الوطنيين الشرفاء أن يقال عنهم جوكرية أو زنادقة أو أي شيء آخر. إنها مفردات جوفاء خالية من المعنى، ولا مكان لها في التداول العام خارج خطاب السلطة، وما أن تتغيّر هذه السلطة [فالتغيّر سنّة تاريخية أيضاً] حتى يندثر معها كلامها وهذرها الخالي من المعنى.
شوهد المقال 186 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك