مرزاق سعيدي ـ حافلة "سوناكوم".. كورونا وحاويات خليج الجزائر!
بواسطة 2020-03-05 00:33:18

مرزاق سعيدي
من حسن حظي أم من سوءه، أن أركب حافلة مهترئة، يوم قررت ترك السيارة جانبا واستعمال وسائل النقل العام.
صبيحة اليوم إكتشفت عيناي ما لم أعهده منذ زمن طويل، من طلوع الفجر في الحي الذي أسكنه وحتى طلوع الشمس عليّ في حي "البحر والشمس" بالعاصمة.
الظُلمة الصباحية لم تُمهلني فحص لون الحافلة التي ركبتُها، دون أن اشرب قهوتي الصباحية، وكان يغشاني نعاس غير طبيعي، ذلك أنني لم أنم جيدا، وأصبحت على أبخرة دخان إمتزج فيه الزيت المحروق بالمازوت، وروائح أخرى تكلّست على عوادم حافلات، بعضها شيّع جدي الى مثواه الأخير..
الحافلة مكتظة، والسائق لم يُقفل الثلاثين من العمر، وترفعُ شفته اليمني "رفعة شمة" من نوع "تشالي"، وهو شخص رحمه الله، كان معروفا بكبر وكثافة "رفعات الشمة" التي كان يُكوّرُها بعناية في ورقتين أو ثلاث من "البابيل"..
الحافلة بلا غمازات ولا أضواء كاشفة، والضوء الوحيد الملاحظ على لوحة التحكم البالية لـ"سوناكوم" جاهدت طويلا، هو تنبيه أحمر اللون عن مستوى الزيت المنخفض في محرك الـ100v8..
سألت السائق الشاب، الذي رغم حداثة سنه، غير متهور في السياقة، عن سبب عدم إصلاح الكم الهائل من الأعطال الملاحظة على الحافلة، فأجاب بلغة لا يفهمها إلا هو أو محصل التذاكر: "يا خو، هدي كار فحلة، لو تخدمها طيح أومبان" !!
الإجابة لم يكن لها أن تصدُمني لحظة سماعها، طالما ان ذهني كان في تلك اللحظة يعقد مقارنات سريعة واعتباطية بين صور تختزنها ذاكرتي عغن الماضي والحاضر، عن "الغد الأفضل" و"الكرامة"، وبين العهدين أربعون سنة، لم يتغير فيها حال الجزائريين، الذين كانوا يركبون الـ"مان" والـ"فانهول"، وأصبحوا يمتطون "شكارة حليب" (إسم تهكمي على حافلات "سوناكوم" القديمة)، أو "هايغر" سيئة السُمعة، التي تقطفُ رؤوس الجزائريين بشكل متسارع في حوادث مرور لم تعد تكتفي بقتيل وعدد محدود من الجرحى..
في تلك اللحظة كانت شاشتي السينمائية تُجبرني بلطافة على رؤية تبذير المال العام على مشاريع لا تنبت غير التراب والجنون والكثير من الغباء في تسيير الشأن العام، وتفضيل "الخواص"، الذين لم يتحرروا من عقلية "تدمير البايلك" بسرقته او تفكيكه وقتل روح التنافسية فيه، ولم ينتقلوا الى مستوى صناعة الثروة والتقدم، ذلك ان جيناتهم المرقية على حب الإكتناز، لا تعرف طريقا الى الوثوق في الخبرات المحلية، ولا في فكرة، قد تبدو هادرة للمال، لكنها في الأخيرة تكون مدرة له، أكثر بكثير من ذلك الريعي الذي يفرك ما بين رجليه وهو يقول: "الجزائر ديراكت"!!
روائح الزيت المحروق ايقظتني من كابوس استرجاع صور الماضي، الذي لا يشبه حاضر الناسوت، ويُقحم فيه عنوة فرامل التغيير بـ"سياسة الأمر الواقع".
إستدرت فإذا بي أشاهد عشرات البواخر الراسيات في خليج الجزائر، منذ ايام تنتظر "دالتها" في الرسو وتفريغ ما في بطونها من حاويات "تحوينا"، مثلما يقول إخواننا الجواجلة، بآلاف الدولارات عن كل يوم تأخير، في زمن تتبجح فيه السياسة وهي تتحدث عن ضرورات التغيير، والتقشف، والحفاظ على المال العام، أو على الأقل عدم تبذيره، وفي زمن إدارة حروب دونكيشوتية على شكارة حليب..
في "البحر والشمس" توقفت لحظات وأنا أقابل خليج الجزائر وألوّح له بنظرات من يستنشق الرطوبة ويحسبها هواء عليلا.
الجو شبه بارد، وزخّات الريح الخفيفة تنعشني، وتفتح صندوق ملاحظاتي على كلام يدور بين بائع مواد غذائية وزبون "رقد بالسياسة وناض عليها"، وهو يقول: "لابد من مصالحة الحراك مع تبون، واش حبيتو نقعدو هاكا"! وتعالت الغمغمات والأصوات فلم أعد أفرز ما يقوله هذا أو ذاك، أو لأنني تذكرت من يكون قد أوحى لصاحبنا قول ما قاله، وهو عبد الرزاق مقري، (الذي قال موجها خطابه للعلمانيين، وهو ما سيكون حطب أحاديث طويلة عريضة، هذه الأيام): "حبيتو ولا كرهتو.. تبون رئيس للجمهورية" !!
عندها ضحكت وأنا أشاهد قطة سمينة ورشيقة "صباح ربي" تقطع الطريق، بعدما نظرت يمينا ويسارا، وبعد ثوان تبعها من قد يكون بعلها للحمل القادم، قفزت على كرسي خشبي، مغروس في شبه "فضاء أخضر"، مقابل لخليج الجزائر، وهي تمسح وجهها في الحركة الشهيرة، في المخيال الشعبي"، بـ"راهي تتوضأ باش تصلي"، وقربها خربشة غرامية: "فلان.. قلب فيه فليشة.. فلانة"!!
وأنا أفتح المكتب تذكرت أنني لم اسمع حديثا واحدا عن "كورونا" طوال رحلتي، مع أن وسائل الإعلام تلوكها بكرة وأصيلا، وتنفخ فيها رماد الموت، وسخرية القدر..
شوهد المقال 423 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك