جابر خليفة جابر ـ تخطيط أول
بواسطة 2020-11-11 23:05:36

جابر خليفة جابر
فجراً: في قلب اللوحة، جنحت طريدون قبالة مصافي النفط، قريباً من الجرف الغربي ومالت نحوه قليلاً، فبدت كابينة القيادة مكعباً مائلاً ذا زرقة كثيفة ساحت حافاتها وتلاشت في لازورد بهيج مسح الشاطئ والأفق وملأ الخلفية بتدرجاته.
أعلى السطح المائل للباخرة بدا شكل أبيض ضئيل، أخذت ملامحه بالنمو والاتضاح شيئاً فشيئاً حتى بأن هيكل لقبطان نحيل اخترق اللازورد بضآلته ونشر مرقاة حبال مطوية وألقى بها على قارب صفيح صغير كان ينتظر فارغاً ثم شرع بالنزول.
ضُحىً: تلاشت ألوان المشهد الخلفي، غاضت مسحة اللازورد وتدرجاته الخفيفة وارتسمت زرقة الكابينة حادة ذات التماعات آسرة جذبت البحارة وقادتهم من العنابر والمقصورات إلى السطح.
كان القبطان خارجاً يتفقّد بحارته وحين لم يفتقد منهم أحداً أمر بإلقاء مرقاة من القنّب الهندي وتشبث بحبالها وهو يهبط من الباخرة محاذراً ألّا تتسخ بدلته الكتان.
بجانب طريدون، أقصى المقدمة من اللوحة غاص الكتان الأبيض في بطن القارب ولم يعد التماع الحذاء وواضحاً بعد نزوله.
وفي المقدمة أيضاً، أدنى المقدمة، اقترب من الجرف، كان الوقت جَزراَ والشاطئ القريب موحلاً، فكاد أن يغادر قاربه ويخوض في الطين، لكنه لاحظ إشفاق البحارة على التماعة حذائه وبياض بدلته، فعدلَ عن النزول وجدف مخترقاً الضفة عبر نهر صغير.
بعد دقائق: غادر اللوحة كلها وغاب في متاهة من الأقنية الضيقة المتعرجة.
بعد الظهيرة: أنجزت زوارق الميناء عملها وعوّمت طريدون بمساعدة مياه المَد والرافعات العملاقة.
وقبيل الإقلاع _ يقول الكابتن شهاب البحر_ رأيت اللوحة على الورقة الأولى من سجل الباخرة، كانت تخطيطات بالحبر الملون يتغير شكلي فيها وموقعي مع تغير زوايا النظر وتحرك مساقط الظلال، رُسِمتُ وأنا أُلقي بمرقاة من أعلى السطح، وفي مشهد آخر كنت هابطاً على السلم، أو واقفاً وسط قارب لم أره من قبل؛ وجده البحارة مربوطاً إلى جانب الباخرة، أسفل سلم الحبال، ولم يكن عائداً لها.
توالت مشاهد أكثر، وحين استدرت قليلا شاهدتني أجدف مخترقا الضفة الغربية للشط والبحارة ينشدون.
((لتغتبط شهيدا بقاربك ، ولترض طريدون عنك، سيدي شهاب البحر)).
قادتني الأقنية إلى جداول أضيق وغابات نخيل، مسارب لم تنهها إلا دارة طين وعرائش عنب تظلل الدرب اليها. قلت: لأمنع دمي من الغليان ولأدخل، لقد تركت أشكالي كلها، وغادرت اللوحة مغامراً بكل شيء، ها أنذا جامد القلب، كانت البوابة أمامي من خشب صاج وحائط الطين واطئا فنزلت، خضت الطين ببدلتي وحذائي وربطت القارب بجذع نخلة ودخلت.
غروباً: أمر القبطان مساعديه بإلغاء الاستراحات وتجميع الطاقم على السطح وعاد إلى كابينة القيادة.
يقول الكابتن شهاب البحر: عدتَ لأحدّق في اللوحة ثانية، غير أني لم أعد أرى شيئا، وتراءى لي راشحاً عبر لازوردها المتلاشي وزرقتها المائلة مشهدٌ فريد، ألوان لجدران طين، باحة واسعة، تتوسطها سدرة وبرحيتان وتحيط بها عشرة أبواب، أوسع الحجرات حجرة الكتب، عرفتها من أوراق كتب متناثرة عند مدخلها، كانت مدورة تختلف بشكلهاعن باقي الحجرات لكنها مهدمة وسقفها منخسف على الأرض، وثمة قنينة ماء لقاح كانت تتدلى من عروة أعلى الشباك.
اللوحة أمامي يترجرج سطحها بمائج لوني شفيف راسماً المكتبة بحبر أزرق فاتجهت اليها، كانت في صدر البيت، لكني لم أصلها إذا انحرفت إلى اليسار قليلاً فقصدتها، صارت هذه المرة على يميني، ثم تحولت ورائي مكان أول الحجرات ثم إلى آخر البيت، وكان الحبر الأزرق يتحول معها ويمسح الألوان فلم أستطع تحديد مكانها، كانت تنزلق مني كل مرة، لا حدود لها ولا مكان، إلا أنني بلغتُ بابها أخيراً وارتشفت جرعة من ماء اللقاح..
كيف اهتديت إليها؟
لا أدري، دخلتها ووقفت، رفوفها متهدلة والمجلدات على الأرض محززة بالأسلحة، ومدعوكة بعنف، ورأيت بصمات تملأ اللوحة كلها..
بصمات بسطال أسود محفورة أخاديده بقسوة، فصرخت بالبحارة…
ـ من رسم هذا على سجل الباخرة؟
ـ من لطّخ بدلتي بالوحل؟
نخيل عراقي
شوهد المقال 649 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك