" حالة حصار " لـ محمود درويش " قراءة نقدية تحليلية " ، بقلم : محمد صلاح زيد ( باحث أكاديمي مصري )
بواسطة 2013-01-31 20:54:27

1- رؤية حول العنوان :
العنوان – بالنسبة لأي عملٍ أدبي – هو بمثابة المرشد الأول للمتلقي ، والانطباع الأول الذي ينطبع في ذهنه عن هذا العمل ؛ إن العنوان من شأنه أن يجبر المتلقي على قراءة العمل ، بل يمده بالصبر الذي من خلاله يكمل قراءة العمل .
نعم إن انتقاء الأديب لعنوانه أمرٌ غاية في الأهمية ، إذ لا تقل أهمية انتقاء العنوان عن أهمية العمل على إخراج عملٍ في غاية البراعة والإتقان اللذين يكسبانه الجمال المنشود ؛ ولذلك فإنه من الحتمي على الأديب أن ينتقي عنوانًا من شانه أن يجذب المتلقي إليه ولا يكون هذا إلا بتوافر الصفة ذاتها ( الجاذبية ) في هذا العنوان .
وبما أن العنوان من وظائفه أن يعطينا فكرة جامعة شاملة عن النص تجعل المتلقي يدرك بعض غيبيات النص من ناحية الموضوع قبل أن يقرأه ، فهذا هو بالضبط ما وصل إليَّ قبل أن أغوص في أعماق النص وأتم قراءته .
- لقد انطبع في عقلي قبل أن أقرأ النص ، وذلك بعدما وقعت عيناي على العنوان ؛ ان هذا النص سوف يتحدث عن آلام ذلك الشعب الصامد الذي تكالب عليه الزمن ، وخذله الجميع حتى أشقاؤه ، عن معاناته و أحزانه ، عما حل به من جراء حصار العالم بأسره له ، عن حالة الحصار و الخناق التي وُضع فيها بلا جرم منه و لا ذنب اقترفته يداه ، عن هذه الحالة من الإذلال و المهانة التي وضعت فيها فلسطين و رجالها الذين علموا العالم بأسره كيف تكون الرجولة و البطولة ؟!!
- وقت أن كتب الشاعر قصيدته كانت فلسطين قد تعرضت لحادثة اهتزت لها قلوب قلوب الأحرار في العالم ؛ إنها حالة الحصار التي فرضت على الشعب الفلسطيني أمام مرأى و مسمع من العالم بأسره، و وقتها كانت لا حياة لمن تنادي .
- فرضت اسرائيل حصارًا كبيرًا على الشعب الفلسطيني بأسره ، كل مدنه وكل طوائفه ، اجتاحت الطائرات و الدبابات و الجنود كل المدن و الشوارع و البيوت ؛ وكأن اسرائيل بهذا تقول للعرب جميعًا : هذه فلسطين نفعل بها ما نشاء ، وهذا هو الشعب الفلسطيني نصنع به ما يحلو لنا ، كل هذا كي تكون فلسطين عبرة لمن يعتبر .
- وقتها لم تكتفِ إسرائيل بضرب الحصار على الشعب ؛ بل قامت بتنفيذ شيءٍ آخر من شانه إيقاع الإذلال بمن يُسمون العرب بشكل أكبر ، قامت اسرائيل بفرض حصار على الرئيس الفلسطيني السابق عرفات ، وقامت كلاب الجيش الاسرائيلي ( جنوده ) بمحاصرة مقره ، كي يتهيأوا للقبض عليه ، وإن كان هذا لم يحدث .
- إن ما كتبه محمود درويش تحت العنوان السابق حالة حصار أثبت بالفعل أنه قد وفق بشكل كبير في انتقاء العنوان لهذا العمل الذي سيفصح فيه عن تجربة شعبه مع حالة الحصار هذه ؛ وهنا نجد أن الشاعر قام بعرضٍ لهذه الحالة يستجدي تعاطف المتلقي معه وأعتقد أنه وفق و سأحاول إثبات هذا فيما يلي .
2- غيبيات النص ومدى ارتباطها بالعنوان :
- إن أيَّ نصٍ أدبي هو عملٌ مُغلق له غيبيات ومكنونات ، لا نستطيع كشفها أو التعرف عليها إلا بعد القراءة ، بل نستطيع أن نكون تصورًا أو تخيلاً كاملاً لمحتويات النص و ما يحتويه النص قبل أن نقرأه ، وذلك إنما يكون من العنوان، لأن ثمة علاقة وطيدة بين العنوان والنص ذاته ، و ذلك لأن العنوان إنما هو إلا تلخيص كاملٌ للنص الأدبي في كلمة أو اثنتين أو ثلاثة على أقصى تقدير .
- في النص يبدأ الشاعر باستحضار المكان والزمان عن طريق الوصف ، فهو عند منحدرات التلال قرب البساتين مقطوعة الظل أمام الغروب ، صورة قاتمة حزينة لها دلالات كثيرة ، إن الظل من شأنه أن يعم المكان وكل هذا لم يحدث ، إنها بساتين لكنها ليست كأية بساتين إنها مقطوعة الظل وذلك لعدم وجود أشجار فيها ، إن الوقت هو الغروب ومن المفترض أن لا نحتاج إلى الظل ولكن ما يحدث من إطلاق للرصاص الذي يجعل الليل نهارًا أكد الحاجة الماسة لوجود الظل .
- إنهم سجناء محاصرون معطلون عن الأمل هكذا أراد العدو ولكن ثمة عملاً للعاطلين وهو تربية الأمل .
- فـ هؤلاء الاعداء يتحكمون في صيغة تعاقب الليل و النهار ، فالليل عندهم لا ليل ، ولكن هذا الحصار سيمتد و يظل إلى وقت معلوم هو وقت أن يعلموا أعدائهم نماذج من شعرنا الجاهلي .
- بالطبع إن أعداءنا لا يعلمون ألا لا يجهلن أحدٌ علينا فنجهل فوق جهل الجاهلينا ، لسبب بسيط هو أننا لم نعلمهم إياه من قبل ، ولكن وقت أن نعلمهم إياه سيذهب الحصار بلا عودة ولا رجعة ، السماء رصاصية في الضحى برتقالية في الليل .
- هنا في هذا الوقت لا يوجد العربي ، وإنما توجد الآمال ، واستدعاء الأساطير والذكريات ، ومحاولات تبرير ما آل إليه الحال .
- يقوم جنود العدو بقياس المسافة بمنظار الدبابة بين الوجود والعدم . فهذا عنصر الوقت ، في هذا المكان أحياءٌ متى سيُحول هذا المكان إلى الفعل كان ( العدم ) ، إننا نتحسس المسافة بيننا وبين القذائف ولكنها لا يقصد منها المساحة المكانية الطولية وإنما يقصد منها عنصر الزمن ، أنا حي الآن ربما أموت بعد لحظات ، دقائق ، ساعات ، غدًا .......
- يا أيها الجنود أقبلوا علينا فنحن بشر مثلكم من حقنا ما هو من حقكم ، أقبلوا علينا اجلسوا معنا اشربوا معنا القهوة العربية لانكم ضيوفنا ولكن بعد إكرام الضيف الرحيل دون إلحاق أدنى أذى بصاحب البيت .
- نحن الآن في عام ألفين واتنين ( (2002م ، بشرى لمواليد برج الحصار إن صورهم تملأ الجرائد وشاشات التلفاز ، يا أيها الأمس الجريح إن موعدك ليس اليوم إنه الغد المرتقب .
- عندما تختفي الطائرات من السماء يظهرجمال السماء ، حرية الحمامات الطائرة في السماء والتي لا تلبث أن تختفي هي الأخرى لعودة الطائرات .
- جنود ينتشرون في كل مكان لا يتحركون ، واقفون لإحكام الحصار ، يمارسون نشاطاتهم الجسمية تحت حراسة الدبابة ، ولكنه حتمًا سيأتي الغد وعندها سنحب الحياة ؛ إننا سنحب الحياة ولكن بحذر فلا يلدغ المؤمن من جحر مرتين .
- فقد يتغير الوضع والحال والتاريخ قد يشب طفل ما وقد انتهى الحصار ويدرس في مهد واحد مع إحدى بنات اليهود المستعمرين تاريخ آسيا القديم من أمم وغارت وحروب طاحنة ، تتار وفرس وآشورين ... لكنها أصبحت مجرد تاريخ ، وقد يقعان معًا في شباك الغرام ، وقد ينتج عنه طفلة ولكنها ستكون يهودية بالطبع والولادة ، ستجندها أمها لها ولقومها ، عندها ستصبح ابنتك أرملة ، لأن زوجها سيقتله العرب في معركة الانتصار ، وحفيدتك يتيمة قُتل والدها وشردت أسرتها وكل ذلك قد يكون بطلقة واحدة ظالمة .
- وهذه القصيدة ليست ضرورية لأنها لا فائدة منها لوجود العشرات قبلها واللائي لم يغيرن شيئًا على الأرض .
- هناك أخوة عرب أيضًا محاصرون ولكنهم يتمنون أن يكون حصارهم علنيًا مثل حصارنا ، إنهم يحبوننا ويبكون علينا لكنهم مقيدون ومحاصرون .
- استطاع العدو أن يُحطم كل قوانا قتلى وجرحى وهدم منازل وتجريف أراضي وتعطيل للحياة .
- الكل في كل اتجاه لا يحرك ساكنًا ولا يقوم بأدنى عمل لإنقاذ فلسطيني – قالت أم لابنها في جنازة ، آمرة سحابة : بأن تغطي حبيبها لأنها لا تستطيع أن تغطيه إن ثيابها مبللة بدمه فهي تتمنى أن يكون حبيبها مطرًا ، فإن لم يكن فشجرًا ، وإن لم يكن فحجرًا ، وإن لم يكن فقمرًا يسير على هداه المهتدون – أيها الساهرون من المحاصرين لنا: ألم تتعبوا من حصارنا ؟!!!
- فنحن كفلسطينيين لنا هدف واحد هو أن نكون ، ولكن كيف يتم هذا ونحن هذا الهدف الواحد في كل شىء مختلفون على سيادة وطن ولا سيادة لنا من الأساس على الوطن .
- إن الاختلاف بيننا لا يزال قائمًا على أمورٍ ثانوية مع أن هدفنا واحد ، وما نختلف عليه ليس له جدوى .
- وهذا سجين يأمل في أن يفك سجنه ، وعندها سيعلم أن مديح وطنه وقومه وأمته لا يساوي شيئا ، إنه يساوي الهجاء ، فهم لا حق لهم في المديح .
- قال معتقل للمحقق : أنا لا أحبك ، ومن أنت كي أحبك؟ إنك لا تمثل لي شيئًا جميلاً كي أحبك ؛ إنني أكره الاعتقال لا أكرهك ، أكره الاعتقال ومن يقومون به أيا كان ولا أكره أشخاصًا بعينهم لعرقهم أو لدينهم .
- الحياة هنا في هذه البلاد لا في غيرها ، هذه البلاد التي يعتدي عليها المعتدون ويحاولون طمس عروبتها وحقائقها .
- أيها المعتدي الغاشم : بماذا تبرر اعتدائك علي؟ أتزعم أننا جاهلون لا نجيد استخدام التكنولوجيا؟؟؟ هذا زعم منك باطل ، وإن كان حقًا فلا يعطيك الأحقية في أن تهدم حياتنا لتقيم حياتك .
- ألسنا نحن سويًا لنا متطلبات واحدة ، قلوب ، وأرواح ؟!!!
- هذه الأرض هي جغرافيا مكان قد يغير حالها وتاريخها الله سبحانه وتعالى .
- صورة الشهيد روحه ، آماله ، طموحاته ... لا تغيب عني يومًا ، فهو يسألني أن لا أبالغ في وصفه بالكلمات ، وأن أدرك أن مناه وجماله كان في حريته ، فهو ما كان يريد الرحيل مبكرًا ، كان يود الحياة على الأرض لكنه لم يستطع ، فعندما أعيته الحيلة فتش عن الحياة ببذل الدماء ، لهذا أجد أن روحه ونفسه وكأنها تأمرني بعدم السير في جنازته إذا لم أكن أعرفه ، فهو لا يريد مجاملة من أحد ، يحذرني من تصديق زغاريد النساء عند الإعلان عن خبر استشهاده ، كيف يزغردن وأبي حين يرى صورتي يبكي ثم يبكي ثم يبكي؟؟؟ .....
فهو يؤكد على أنه لم يغير فقط سوى مكانه وأثاثه ، فهو ما رحل إلا إلى القبر .
- سيظل الحصار من قبل الاحتلال لكي يفرض علينا عبودية يريدها هو ، سيادة ، شروط ، ولكن سنظل نقاوم بكل شموخ ، فـ قلوبنا لا تزال عامرة بالحياة لأننا لا نزال نربي الأمل وذكورنا قادرة على الإنجاب ، وما دمنا كذلك فسنظل نقاوم .
- سلامٌ على كل من يشعر بي ويقاسمني الآلامي وأحزاني .
- إنهم دائمًا ما يجهزون لنا حفلات الوداع والقبور والحجارة التي سيحفر عليها أسماؤنا ، ولكن أظل أنا ممن يتسابق في الجنازات ليعلم من مات .
- لقد جعلني الحصار كأداة الكمان أردد في قصائدي أسماء الشهداء والشهيدات أبناء الشهداء ، أحفاد الشهداء ...
- لقد أصبحت الأنباء لا تزعج من أسمى نفسه بالعالم المتمدين ، فالقتل والدمار لنا أصبح مألوفًا عندهم .
- وتراهم يريدون الهدنة معنا، لا لكي نعيش هذه الفترة في سلام وأمان، وإنما لأنهم يجرون تجارب ، يطورون أسلحة سوف يقومون بعد ذلك بتجريبها علينا بعدما ينتهون منها، وفي الوقت الذي يحددونه .
- ها هو الأمل يروادنا في أن يتسرب السلام إلى نفوس الاعداء وقلوبهم وقت الهدنة المزعومة ، ولكن هيهات هيهات ؛ إننا سنظل ضيوف في بلادنا على الأبدية .
- بعد هذا العرض الطويل لغيبيات النص ومكنوناته ، والإفصاح الذي جاء فيه عن الحالة التي يعيش فيها الشاعر ومجتمعه، حالة الحصار الناتجة عن الاحتلال وما تقوم به من تعطيل شامل لشتى سبل الحياة ، يظهر لنا الرابط المتين ، والعلاقة الوثقى بين العنوان والنص ، وكذلك مدى التوفيق الذي صاحب الشاعر في انتقاء العنوان .
بقلم :
محمد صلاح زيد ( باحث أكاديمي مصري ) .
شوهد المقال 13184 مرة
التعليقات (1 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك