الجمالي والفكري في رواية رقصة اليعسوب للمبدع عبد الرزاق بوكبة
بواسطة 2022-04-25 02:25:14

كتب الدكتور وليد بوعديلة:
عبد الرزاق بوكبة في رواية "رقصة اليعسوب":
"هذه الرواية...زمن الفتنة، التجريب و ذاكرة مدينة البرج"
صدرت للكاتب والروائي عبد الرزاق بوكبة رواية رقصة اليعسوب ،عن دار خيال للنشر والترجمة،برج بوعريريج،الجزائر،2021،في طبعة أنيقة جميلة،وفيها يقترح على القارئ مغامرة فنية و ذاتية وجماعية مشوقة،تستفز الوعي و تخلخل الكثير من معايير وأدوات البحث الفني والفكري....من خلال قصة في زمن الفتنة.
1-بوكبة .. المراوغة الفنية ومنطقة البرج:
يمكن أن نقول بأن الرواية تتحدى القارئ وتطمح لمراوغته وإحداث الشك والاضطراب عنده،فهي تستعين بتقنيات روايات تيار الوعي،كما تعتمد التجريب الفني الذي لا يكتفي بالأحادية في التعبير والبناء والصياغة،كل هذا من خلال شخصيات سردية أبرزها عبد القادر الذي يدرس بمعهد المعلمين،وهو الشاب القادم من الريف، ويلتقي بمجموعة من الزملاء ويتعرف عليهم وعلى عائلاتهم وأفكارهم وهواجسهم...
إن الرواية تنقل لنا ذاكرة مدينة برج بوعريريج بالشرق الجزائري،زمن التسعينات،او العشرية الدموية التي بدأت ملامحها بعد توقيف المسار الانتخابي،فنقرأ،عبر التداعيات النفسية،عن أخبار الاغتيالات والمسيرات والصراعات الفكرية والدينية،كما نعود_مع تحولات السرد وتبدلاته الكثيرة_ إلى زمن الثورة التحريرية...
تتحرك أحداث الرواية في سياق هزها لوعي القارئ،بين الريف(البراءة والمراعي والفلاحة) والمدينة(صراعات الأفكار والقناعات)، وبين الوطن والغربة، و بين الجمالي والأخلاقي(رغبة البعض في تحطيم تمثال الطفل والسمكة وسط الحديقة)،وتحيلنا لأوضاع العمال المهاجرين الصعبة في فرنسا،ومشاغلهم ومشاكلهم بين الهنا والهناك...
نجد في الرواية إشارات للممارسات الاستعمارية الهمجية (مثل اغتصاب النساء)ونجد الاحالات لأحدث واحتجاجات اكتوبر 1988،و نقرأ عن اهم الفاعلين السياسيين بالجزائر وأفكارهم وأحزابهم،زمن التسعينات،وعن المعتقلات وبحث الأهالي عن أبنائهم المعتقلين ،ونقرأ عن اغتيالات الأئمة والمثقفين (امام المسجد وأستاذ التاريخ كمثال) وعن المجاهدين المزيفين(شخصية يحي الذيب)،ونجد خطابات الأجداد وقيمهم واصواتهم،ومواقف وعواطف الشباب و أفاقهم، لهذا استعان السارد كثيرا بتداعي الذكريات والمشاعر، وبالمنامات و أحلام اليقظة...
كما نجد شوارع وأزقة ومعالم مدينة البرج و ضواحيها(برج المقراني،مجانة،جنان الزيتون،المسجد،الزوايا،حي الفيبور،المقبرة،،) فتكون الرواية محاولة فنية وثقافية من عبد الرزاق بوكبة لمكاشفة برج بوعريريج،الذاكرة والمكان والانسان،بتقنيات فنية حداثية،تقترح هوية مكانية للمدينة،بأداء سردي تجريبي مراوغ وصعب....يتداخل فيه الواقع مع الوهم،والحقيقة مع الخيال، فتنسى_ايها القارئ_ بوكبة المؤلف ولا تتذكر الا شخصيات مضطربة ومتناقضة (شخصية أصيل بين التدين الظاهر والمجون الخفي).
2-الرواية والخرق الفني:
نقول بصعوبة فهم دلالات الرواية،لأنها تمارس الحكي بتشظي الزمن وكسر خطيته،وبخرق السرد العادي البسيط،كما نجد فيها : شعرية السرد،المونولوق،تداخل الفنون(مسرح،موسيقى،فن تشكيلي،،نحت التمثال،أغاني المالوف...)،وتوظيف التراث والسير الشعبية (ألف ليلة وليلة) وشخوصها،ويربط عبد الرزاق بوكبة هذه الأجواء التراثية بأحلام شخصياته ومناماتهم،ومعاني السفر نحو بغدادا،بين التاريخ والراهن،ويعبر عن الخواطر الحميمية القريبة من اللاوعي ،ويصور الصراعات والأشواق والرغبات عند شخصيات كثيرة( عبد القادر،اصيل،الخالة... )،فأي قارئ يمكن له فك كل هذه الشفرات والفنون؟!
لقد أدخلنا الكاتب للمساجد بالبرج والكنائس (بفرنسا)،وقدم المشاهد والصور،واحالنا على الثقافة الدينية واصواتها ونبضها،كما دخل المشافي في زمن الاستعمار، وأشار لكثير من معالم وملامح وهويات الأمكنة....
في الرواية،يذوب الحد الفاصل بين الواقعي والمتخيل،البسيط والفانتازي،مثل توظيف التمثال الموجود وسط حديقة بالمدينة،واطلق عليه اسم وليد،و تحول لشخصية متخيلة في النص،أي أنه متخيل في ذهن عبد القادر،او هو " متخيل في المتخيل" (يلا..افهم يا قارئ....دنك مليح في المعاني)...؟!
ونرى بأن اكبر مفتاح يمكن به تأمل النص هذا هو التحليل النفسي،لجانب الانفتاح على نظريات الأجناس الأدبية (النص المفتوح الرافض للقواعد والأنواع الأدبية).
يريد منا بوكبة من خلال نصه ان نبحث في الذاتي قبل الموضوعي والجماعي(أفضل تجاوز اسئلة واشكالات تداخل السير ذاتي مع الروائي هنا...بالبحث في روائية الرواية )،لأن الكاتب/الراوي مارس الانكفاء على ذوات الشخصيات و أمراضها وحاجاتها،عبر شخصياته العديدة والمتناقصة،وقد منحها فرصة السرد والبوح والمناجاة،فغاب الحدث كمحور درامي واضح،وبرزت التجارب الوجودية ومشاهد البوهيمية والعبث،إلى جانب القناعات الدينية(مشهد رفض بعض المتشددين لوجود موائد الصدقات بالمسجد) والسياسية(الأحزاب الإسلامية واليسارية...)،في وطن واحد متعدد،لم يكن_ يظن في بداية التسعينات_ أنه سيخسر الكثير بحثا عن اوراق الديمقراطية،فكان ينتقل بين الصندوق/الجنائز والصندوق /الانتخابات،فكتب واقعه الدم والنار والرصاص والتطاحن،لتكتبه بعد ذلك الكثير من الروايات، فيما سمي بأدب الأزمة أو الادب الاستعجالي،وهاهو بوكبة يعود لتلك الفترة برواية تحاور الشعري والثوري والعاطفي والدرامي... وتبحث عن أيام الصفاء والبراءة والمحبة،حتى لو جاءت متأخرة في مشهد أخير من الرواية،بعد الهرب من الموت والدم نحو باريس....
اخيرا..
جاءت النهاية الرواية صادمة لتلقي القارئ،حيث يكشف المؤلف سبب اختيار العنوان،عبر ظهور حشرة اليعسوب لتطير وترقص من حقيبة السفر،في غرفة بباريس،كما يكشف عن عدم موت سيلينا،رغم تاكد أخبار موتها حرقا في سياق الرواية سابقا،يقول عبد القادر في الختام:"كيف أغفر لنفسي كوني صدقتُ موتكِ؟"
هي تجربة فنية جديدة للمبدع عبد الرزاق بوكبة،تحتاج لتأملات فنية وأخرى ثقافية متعددة وكثيرة...لما تقوله من تجريب ادبي وتجاوز سردي للمألوف السردي في عرف الكتابات الروائية،ولما تحيل عليه من عوالم ثقافية تختصر ذاكرة منطقة البرج وتحولاتها الفكرية والسياسية، وجمالياتها المكانية العديدة.
وسيكشف،مستقبلا، القراء المحبون لكتابات المبدع الكثير من عوالم واسرار وجماليات و أنساق الرواية.
د.وليد بوعديلة
جامعة سكيكدة.
"هذه الرواية...زمن الفتنة، التجريب و ذاكرة مدينة البرج"
صدرت للكاتب والروائي عبد الرزاق بوكبة رواية رقصة اليعسوب ،عن دار خيال للنشر والترجمة،برج بوعريريج،الجزائر،2021،في طبعة أنيقة جميلة،وفيها يقترح على القارئ مغامرة فنية و ذاتية وجماعية مشوقة،تستفز الوعي و تخلخل الكثير من معايير وأدوات البحث الفني والفكري....من خلال قصة في زمن الفتنة.
1-بوكبة .. المراوغة الفنية ومنطقة البرج:
يمكن أن نقول بأن الرواية تتحدى القارئ وتطمح لمراوغته وإحداث الشك والاضطراب عنده،فهي تستعين بتقنيات روايات تيار الوعي،كما تعتمد التجريب الفني الذي لا يكتفي بالأحادية في التعبير والبناء والصياغة،كل هذا من خلال شخصيات سردية أبرزها عبد القادر الذي يدرس بمعهد المعلمين،وهو الشاب القادم من الريف، ويلتقي بمجموعة من الزملاء ويتعرف عليهم وعلى عائلاتهم وأفكارهم وهواجسهم...
إن الرواية تنقل لنا ذاكرة مدينة برج بوعريريج بالشرق الجزائري،زمن التسعينات،او العشرية الدموية التي بدأت ملامحها بعد توقيف المسار الانتخابي،فنقرأ،عبر التداعيات النفسية،عن أخبار الاغتيالات والمسيرات والصراعات الفكرية والدينية،كما نعود_مع تحولات السرد وتبدلاته الكثيرة_ إلى زمن الثورة التحريرية...
تتحرك أحداث الرواية في سياق هزها لوعي القارئ،بين الريف(البراءة والمراعي والفلاحة) والمدينة(صراعات الأفكار والقناعات)، وبين الوطن والغربة، و بين الجمالي والأخلاقي(رغبة البعض في تحطيم تمثال الطفل والسمكة وسط الحديقة)،وتحيلنا لأوضاع العمال المهاجرين الصعبة في فرنسا،ومشاغلهم ومشاكلهم بين الهنا والهناك...
نجد في الرواية إشارات للممارسات الاستعمارية الهمجية (مثل اغتصاب النساء)ونجد الاحالات لأحدث واحتجاجات اكتوبر 1988،و نقرأ عن اهم الفاعلين السياسيين بالجزائر وأفكارهم وأحزابهم،زمن التسعينات،وعن المعتقلات وبحث الأهالي عن أبنائهم المعتقلين ،ونقرأ عن اغتيالات الأئمة والمثقفين (امام المسجد وأستاذ التاريخ كمثال) وعن المجاهدين المزيفين(شخصية يحي الذيب)،ونجد خطابات الأجداد وقيمهم واصواتهم،ومواقف وعواطف الشباب و أفاقهم، لهذا استعان السارد كثيرا بتداعي الذكريات والمشاعر، وبالمنامات و أحلام اليقظة...
كما نجد شوارع وأزقة ومعالم مدينة البرج و ضواحيها(برج المقراني،مجانة،جنان الزيتون،المسجد،الزوايا،حي الفيبور،المقبرة،،) فتكون الرواية محاولة فنية وثقافية من عبد الرزاق بوكبة لمكاشفة برج بوعريريج،الذاكرة والمكان والانسان،بتقنيات فنية حداثية،تقترح هوية مكانية للمدينة،بأداء سردي تجريبي مراوغ وصعب....يتداخل فيه الواقع مع الوهم،والحقيقة مع الخيال، فتنسى_ايها القارئ_ بوكبة المؤلف ولا تتذكر الا شخصيات مضطربة ومتناقضة (شخصية أصيل بين التدين الظاهر والمجون الخفي).
2-الرواية والخرق الفني:
نقول بصعوبة فهم دلالات الرواية،لأنها تمارس الحكي بتشظي الزمن وكسر خطيته،وبخرق السرد العادي البسيط،كما نجد فيها : شعرية السرد،المونولوق،تداخل الفنون(مسرح،موسيقى،فن تشكيلي،،نحت التمثال،أغاني المالوف...)،وتوظيف التراث والسير الشعبية (ألف ليلة وليلة) وشخوصها،ويربط عبد الرزاق بوكبة هذه الأجواء التراثية بأحلام شخصياته ومناماتهم،ومعاني السفر نحو بغدادا،بين التاريخ والراهن،ويعبر عن الخواطر الحميمية القريبة من اللاوعي ،ويصور الصراعات والأشواق والرغبات عند شخصيات كثيرة( عبد القادر،اصيل،الخالة... )،فأي قارئ يمكن له فك كل هذه الشفرات والفنون؟!
لقد أدخلنا الكاتب للمساجد بالبرج والكنائس (بفرنسا)،وقدم المشاهد والصور،واحالنا على الثقافة الدينية واصواتها ونبضها،كما دخل المشافي في زمن الاستعمار، وأشار لكثير من معالم وملامح وهويات الأمكنة....
في الرواية،يذوب الحد الفاصل بين الواقعي والمتخيل،البسيط والفانتازي،مثل توظيف التمثال الموجود وسط حديقة بالمدينة،واطلق عليه اسم وليد،و تحول لشخصية متخيلة في النص،أي أنه متخيل في ذهن عبد القادر،او هو " متخيل في المتخيل" (يلا..افهم يا قارئ....دنك مليح في المعاني)...؟!
ونرى بأن اكبر مفتاح يمكن به تأمل النص هذا هو التحليل النفسي،لجانب الانفتاح على نظريات الأجناس الأدبية (النص المفتوح الرافض للقواعد والأنواع الأدبية).
يريد منا بوكبة من خلال نصه ان نبحث في الذاتي قبل الموضوعي والجماعي(أفضل تجاوز اسئلة واشكالات تداخل السير ذاتي مع الروائي هنا...بالبحث في روائية الرواية )،لأن الكاتب/الراوي مارس الانكفاء على ذوات الشخصيات و أمراضها وحاجاتها،عبر شخصياته العديدة والمتناقصة،وقد منحها فرصة السرد والبوح والمناجاة،فغاب الحدث كمحور درامي واضح،وبرزت التجارب الوجودية ومشاهد البوهيمية والعبث،إلى جانب القناعات الدينية(مشهد رفض بعض المتشددين لوجود موائد الصدقات بالمسجد) والسياسية(الأحزاب الإسلامية واليسارية...)،في وطن واحد متعدد،لم يكن_ يظن في بداية التسعينات_ أنه سيخسر الكثير بحثا عن اوراق الديمقراطية،فكان ينتقل بين الصندوق/الجنائز والصندوق /الانتخابات،فكتب واقعه الدم والنار والرصاص والتطاحن،لتكتبه بعد ذلك الكثير من الروايات، فيما سمي بأدب الأزمة أو الادب الاستعجالي،وهاهو بوكبة يعود لتلك الفترة برواية تحاور الشعري والثوري والعاطفي والدرامي... وتبحث عن أيام الصفاء والبراءة والمحبة،حتى لو جاءت متأخرة في مشهد أخير من الرواية،بعد الهرب من الموت والدم نحو باريس....
اخيرا..
جاءت النهاية الرواية صادمة لتلقي القارئ،حيث يكشف المؤلف سبب اختيار العنوان،عبر ظهور حشرة اليعسوب لتطير وترقص من حقيبة السفر،في غرفة بباريس،كما يكشف عن عدم موت سيلينا،رغم تاكد أخبار موتها حرقا في سياق الرواية سابقا،يقول عبد القادر في الختام:"كيف أغفر لنفسي كوني صدقتُ موتكِ؟"
هي تجربة فنية جديدة للمبدع عبد الرزاق بوكبة،تحتاج لتأملات فنية وأخرى ثقافية متعددة وكثيرة...لما تقوله من تجريب ادبي وتجاوز سردي للمألوف السردي في عرف الكتابات الروائية،ولما تحيل عليه من عوالم ثقافية تختصر ذاكرة منطقة البرج وتحولاتها الفكرية والسياسية، وجمالياتها المكانية العديدة.
وسيكشف،مستقبلا، القراء المحبون لكتابات المبدع الكثير من عوالم واسرار وجماليات و أنساق الرواية.
د.وليد بوعديلة
جامعة سكيكدة.
شوهد المقال 2080 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك