جعفر يعقوب - البناء العاشق -٦٩-
بواسطة 2015-06-28 00:08:21

جعفر يعقوب
بعد الظهيرة، يتقاطر الحضور من أقارب الحاج حسن والمنضوين إلى ربقته ورفقته، حتى موعد المجلس، بينهم الملا أحمد الذي يشيع حضوره ملاحة خاصة تسرّ محدّثيه بنبرات صوته المرتفعة.
وهاهي ذكرى
يوم المبعث النبوي بأهازيجه يملأ المجلس فرحة عارمة، بزغردات الملا أحمد وعذوبة أوتاره..
نبيّنا آياته ظاهره
يشفع في الدنيا وفي الآخره
أعظمها القرآن جلّ الذي
أنزله معجزة باهره
وفي انشقاق البدر للمصطفى
والشمس في آياته ظاهره
وعلى موسقة صوته يتمايل الحضور طربا في ذكرى المبعث.
وبين حين وآخر تدخل المجلس وجوه غير مألوفة، يقوم الحاج حسن الإسكافي بنفسه باستقبالهم، وتشريفهم في موضع خاص من المجلس الذي بدا عليه مظهر أكثر رونقا هذا اليوم.
عيون الحاضرين تتأمّل وجوه القادمين مستغربة من هؤلاء الضيوف الأجانب، فيهم وجيه وقور تلاعب فيه الشيب، وشيخ معمم مهيبًا، قام الجميع توقيرا إليه، وإلى جنبه شاب عشريني يحمل في يده حقيبة صغيرة.
لكنّ واحدا فقط بدا مألوفًا من بعضهم، هو الحاج أحمد الهدّار، وراح الحاج علي بن عيسى يهمس لحسن متروك سائلا:
- وش جابه هالهّدار هنا؟ غريبه!
- يعرفونه من البحر.
كانت أم عبد الله تستقبل ضيافاتها أيضا، لكنّها صعقت حين رأت بينهنّ الملاية فاطمة تدخل بيتها برفقة امرأة وثلاث بنات في عمر الزهور، ولم تطل حيرتها كثيرا حين عرفت أنها عروس جاسم وحبيبته التي ينتظرها، حضرت لخطبتها وعقد كتابه عليها، فلم تتمالك من بثّ فرحتها زغرودة ملأت أجواء البيت، عرف الجميع منها سرّ التجهيزات غير العادية في البيت.
سيارة الهلمن تقلُّ جاسم من المطار لبيته، تقطع الشوارع شارعا شارعا بسرعتها المتواضعة.
الملا أحمد ينتهي من قراءة المبعث، وترتفع الصلوات عالية، في الوقت الذي يصل فيه جاسم لمنزلهم...
- اليوم الجمعه، والجماعه موجودين ..
- الحمد لله على سلامتك، نوّرت بيتك.
- الله يسلّمك أخي حازم، والنور نورك .. حياك تفضل المجلس أعرفك بالوالد.
يتّجه جاسم نحو باب المجلس؛ للسلام على الحاضرين.. لم تكد ترنو إليه عيونهم حتى هرول الجميع لاستقباله، عناق حار، وتحيات ساخنة المشاعر، واحدا بعد آخر، حتى انتهى إلى أبيه، قبّل جبهته ويديه، فأمسكه أبوه الحاج حسن، ومشى به نحو ضيوفه، عرّفه بهم ..
- الشيخ زين بركات.. تعرف هذا ؟؟
هذا الحاج حسن الرملي .. سمعت عنه طبعا؟
احتضنه جاسم بإجلال وتقدير وهالة من التوقير.
- شرفتنا يا حاج هذي فرصه أتعرف عليك ..
- الشرف لي انا، انت صاحب فضل عليي..
- لا .. لا أبدا .. هذا واجبي يا حاج .. مقامك محفوظ، وراسك مرفوع.
- وأظنك جاسم تذكر هذا الرجال الطيب؟
- نعم، هذا الحاج أحمد الهدار.
- الهدار صديقنا من سنين، يا ولدي.
مدّ جاسم يديه مسلما، وهمّ بالخروج، لكنّ الحاج حسن استسمحه بالجلوس إلى جانبه، فانصاع لطلب والده.
- حاضر.
الدهشة تستحوذ بجاسم، وتثير فيه سؤالا واحدا: ما الصدفة التي جمعت هؤلاء في المجلس؟ وما علاقة والده بالحاج الرملي؟
لكن دهشته لم تطل حين بدأ أبو راشد بالكلام..
- يا ولدي جاسم، الحمد لله على سلامتك.. انت رجال عطوف وقلبك كبير، وصاحب القلب ما يترك احد قلبه مكسور . صح ولا لا..؟
هزّ جاسم موافقًا، وانتظره يكمل حديثه..
- فاطمة ابنة الحاج أحمد تنتظرك كل هالسنوات، وانت تنتظر لحظه اتشوفها زوجه في بيتك! واحنا جينا لبيتكم ، نقرّب بينكم، والجميع راضي، بقت موافقتك.
صدمت جاسم المفاجأة، فاحتار بالردّ! وهو ينظر لوجه أبيه، فقرأ موافقته في وجهه، فابتسم حياء من هذا العرض المغري الذي لم يتوقّعه، والمفاجأة الغريبة.
أراد الرملي أن يبدد حيرته، ويضعه أمام الواقع..
- وش قلت يا جاسم؟ العروس تنتظرك داخل بيتكم؟ وهذا أبوها موافق، والشيخ زين موجود جاهز يكتب العقد!
نظرات الجميع تتجه لجاسم في صمت ودهشة..
عقّب الشيخ زين بركات :
- ما بني بيت بعد الإسلام أفضل من الزواج.. يا أخ جاسم.
- على بركة الله.
انفرجت الأسارير في بهجة، وجاسم نفسه يغرق في حفلة فرح، تسيل فيها وديان قلبه غبطة، وترفرف
طيور الحب على شرفة حناياه تعزف مزاميز بهجة طالت سنوات انتظارها.
نادى الحاج حسن على ولده علي، وأسرّ في أذنه، خرج بعدها علي.
ارتفعت زغاريد النساء في بيت الإسكافي، ودوّت فرحة الزواج الذي ربط جاسم بفاطمة .. بين قلبين عاشقين ..بكلمات باركها صوت الشيخ زين الذي أخذ توكيل فاطمة في عقد قرانها بجاسم، وارتفعت الأصوات تبارك المكان بذكر الصلاة على النبي وآله، وصوت الملا أحمد يزجي قوافي الفرح هزيجا يتناغم معه الحاضرون طربًا بفرحة العقد.
أم عبد الله تنتشي فرحة بحلم لم يخطر ببالها، فاطمة التي تمنتها زوجة لجاسم هاهي في بيتها تستقبل التهاني، وهي إلى جنبها، ما أسعدها لحظة حلم! والبخور العماني بعبقه الأخّاذ يملأ أرجاء البيت غبطة وبهجة.
تقدّم الجميع من جاسم يباركون له، متمنين له عشّا زوجيا ينعم فيه بالرفاه والبنين ..
- وأخيرا جت السعادة عندك، وعرفت تخطفها يا صديقي.
قالها جلال عبد المصطفى بعد أن طبع على خدّ جاسم قبلة صادقة لصداقة حميمة، تنفست منذ الصّبا، وتبرعمت مع العمر، تحضر وقت الحاجة؛ لتوقد شمعة .
شوهد المقال 2158 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك