جعفر يعقوب - البناء العاشق -٦٤-
بواسطة 2015-06-20 17:22:49

جعفر يعقوب
رفعت كفين ضارعين بقلب ينفطر، ويتوسّل أن ينفتح باب السماء لإجابتها. وتمتمت، ورفعت نجواها في دمعة صافية انهرقت على مرآيا خدّها الناعم. مرمرت على قلبها نسيمًا باردا مسح لاهوب حناياها الواجدة، أعقبتها بسجدة طويلة، بصوت ضعيف، ثم انفتلت من صلاتها، فشرعت ترتل بمزامير صوتها سورا قصيرة من كتاب الله، فتملأ غرفتها الصغيرة عبقًا عاطرا، تذوب معه الروح.
قامت بعدها والشمس في بداية طلوعها. لمحت من نافذة غرفتها شجرة السدرة شامخة بطولها، فتأوّهت، وعادت ثانية لسريرها الخشبي المتواضع، فأمسكت كتابا، تصفحت بعضا من صفحاته، وهي تقرأ..
نخيتَك يالضريحَك شامخ ببغداد
عِندي بقلبي حاجة و جايَك بيها
قبِل ما أمد إيدي وألزم الشبّاگ
يا باب الحوائج كون تقضيها
ذابت حشاشتها مع تلك الكلمات، وكأنها تنتخي بحاجتها، وتعيش مع رغبتها.. وشيئا فشيئا، غابت في الشرود.
في الثامنة صباحا كانت رحلة الطيران المصري تقلع مغادرة إلى أرض الكنانة، تقلّ ثمانين راكبا على أقل تقدير، من بينهم رجل الأعمال جاسم الإسكافي مدير شركة الأناقة الحديثة للمواد الصحية ولوازم البناء.
جاسم اليوم ليس هو جاسم الأمس في طموحه وتطلعاته، وإن كان يحمل قلبه نفسه في طيبته ومشاعره، حتى حبّه لفاطمة لم يتغيّر، وكم شغله الشوق إليها، وهو في ذروة انشغاله بعمله، والأكثر من هذا كم فكّر أن يتعقّبها ويسأل عنها، فربما استطاع أن يوسع عليها وعلى أبيها؛ عرفانا منه لشعلة الحب التي لا تزال وارية بين ضلوعه، وتكريما لذكريات عاشها، وهو الآن يفتح بوابة العقد الثالث من عمره.
بدأت صحّة الحاج حسن أبي راشد تتعافى، وهو يترقب موعد جلسة المحكمة يوم الثلاثاء، وهو في نشوة التفاؤل بعد أن أخبره شاكر السرو بتفاصيل البيع والديون التي دفعها العملاء للوكالة ومؤازرة جاسم الإسكافي له.
- اليوم بنسدد كل دين البنك، وبعض العملاء، والمتبقى بنسدده على شكل أقساط، حسب اتفاق الأخ جاسم مع العملاء.
- جاسم له فضل علينا.
- أكيد يا حاج، ما شفت رجال مثل تواضعه وحماسه لمساعدة الوكاله.
- بس ويش مصلحته؟
- الصراحه هذا رجال نادر اتحصّل مثله. حسب كلامه ان سمعتك الطيبه دفعتها للمساعدة.
- الله يجازيه خير. انا ما شفته ولا سمعت عنه في السوق.
- هو جديد في السوق، بس رجال عارف السوق، وفاهم كيف يتحرك.
- من وين جاسم؟
- من المعامير.
- المعامير.. صوب سترة! أعرف ناس اجاويد من المعامير، عبد الجليل القطيفي واخوه حسن، والمختار الحاج حسين ... مو غريبه هذي ديرة الطيبين. والبحرين صغيره، لكن قلب أهلها كبير، وفي الشده إيد وحده.
قهوة اليماني تزدحم بروادها وقت ذروتها من النصف الأول من النهار من صنوف الصنايعة، حركة لا تعرف السكون، ولغط لا يتوقف عن الكلام في مشارب لا تتفق في لون، ولكن وضع السوق لا يغيب عن تلك الأحاديث، يتجادلون فيه.
يضع الشعباني لقمة من الناشف، ويمضغها، وهو يتأهب للكلام..
- بكره جلسة محكمة وكالة الرملي؟
- مهدده بالافلاس، ولديون غرقتهم.
- لعب فيها ولده راشد.
- يقولون لطيور على أشكالها، إلاّ طير راشد، طلع بوومه.
يضحك حسن المعراج استخفافًا، ويواصل..
- مو وجه نعمه.. من ايام العمانيين يشتغلون معاهم مثل العبيد، وش حصلوا منهم.
فيرد عليه باقر الشعباني بجدية:
- الحاج حسن الرملي كريم وخلوق ويحب أفعال الخير.. حتى المساجد يساهم في بنايها!
- ويش امحصل منه؟ مالك الا الطفو!
- بصراحه ما يستاهل الرملي، أحسن من هالتجّار
البخله اللي تارسين السوق، يكنزون لفلوس ولا يشبعون.
- قوم نشوف شغلنا، ونترزق الله، ويش بيدخل علينا منهم.
- على رايك.. احنا حمّاليّه وبانظل حماليّه..
شوهد المقال 1406 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك