جعفر يعقوب - البناء العاشق -٦٣-
بواسطة 2015-06-19 14:18:33

جعفر يعقوب
نفضت عنها غبار النوم بعد أن نشرت عليها الشمس غزل أشعتها الذهبية.. مشهد يومي ترسمه ريشة الطبيعة في المعامير الطيبة.. بيوت الطوب والحجارة، ذات الأسقف الخشبية المصنوعة من الچندل غالبا، وعرائش من سعف النخل، تسوّرها جدران من حجارة البحر.
وشيئا فشيئا، تغلفها الرطوبة وتلفحها حرارة الصيف.. كانت طيور البط سبّاقة للماء؛لتستحم من هجير الشمس، قبل أن يستيقظ الأطفال والصبية إلى السباحة في بحر المعامير وعيونها العذبة.
يتمزق الهدوء مع مرور الوقت، ويختفي مع استيقاظ حركة الأهالي لحياتهم المعتادة.
فقط جاسم عنتر سبق الجميع قبل شروق الشمس؛ ليبيع أرغفة الخبز الطازجة من تنوره، قبل أن يذهب البحارة إلى للصيد.
ومع ضحضحة الوقت البائع الجوّال حسن بن مهدي يسوق عربته في شوراعها وممراتها الضيقة؛ لكسب قوته، يبيع خضرواته وحمضياته، والكستناء، واللوز الأخضر، والصبار الهندي، وصوته يدوّي بأغانيه المعتادة، والتي باتت محفوظة من الناس.
ولم تمضِ ساعات ، حتى يصل الحاج إبراهيم التوبلاني بائع القماش، فيفرش أنواع الأقشمة النسائية عند الحسينية الكبيرة، فتحوطه النساء، يشترين احتياجاتهن من الأقمشة.
وربما صادف مرة في الشهر مجيئ علي أشكناني -صاحب الزري أتيق- ( الأغراض القديمة المستخدمة) فيجد من يبادله بفانوس مستخدم، أو مرشّ عتيق، أو دلّة نحاسية، فيعطيه أشكناني صحونا جديدة أو كأسات أو أو إبريقا زجاجيا، فيطير من الفرحة.
هو طبع القروي في قناعته وبساطته، ورضاه عن المكتوب إليه، والحنون الذي تغمره الشفقة على غيره حين تلسعه الحاجة أو يوخزه العوز.
تطرق زينب ابنة الثامنة سيخ باب بيت الإسكافي، فتنفتح الدروازة على مصراعيها:
- هذا ليكم من عند أمي.
يتسلم علي الإسكافي من يديها الصغيرتين طاسة (آنية) معدنية ساخنة، وضعتها على رأسها تحت خرقة قماش لفّتها بإحكام.
- انت بنت مين؟
- حاجي محمد.
- سلمي على ابوش وأمش.
- يا طيب رايحتها، مرقة سمكة المطبوخ بالكروف من بيت الجيران .. تفضلي يا ام عبد الله.
- هذي ام علي من تطبخ مرقة السمك بالكروف ما تقصّر، لازم تسهمنا.
- ونعم الجيران، بيت حاج محمد بن ابراهيم معروفين بكرمهم وطيبة اخلاقهم.
يمه احنا جوعانين .. متى غذانا؟
- انت كل وقت مستعجل وبطنك قارصنك..
- اليوم ورانا شغل في مسجد الشيخ أحمد.. نمبي ناكل هاللقمه ونرتاح اشوي.
- على افادي جاسم .. صار له كم يوم ما يجي على الغذا، هالشغل ما اخذ وقته.
- بس اليوم حاضر، لو نسيتي اليوم الجمعة. اليوم كلنا مجتمعين على السفره.
- روح استعجله وقول لابوك، وحط السفره، بالزتات. وخبر عبد الله، وجيب معاك التمر من الچندول.
- إن شاء الله يا امه، سمع وطاعه.
تباشير الأمل حلّقت أسرابها في سماء وكالة الرملي. تقي والسماك كانا أوّل المبادرين لشراء كميّة الأخشاب من جاسم بمبلغ فوري، وحصيلة المبالغ المستحقة للوكالة تمّ استلامها، ويد جاسم البيضاء كانت حاضرة تسجّل قصة إيثار لا نظير له. جاسم نفسه يشعر بارتياح بعد أن تعدّت الوكالة اللون الأحمر.
بعد ثلاثة أيام تشهد المحكمة الإدارية جلسة فصل.
في غياب جاسم خارج مكتبه، مكتوب بظرف صغير يسلمه عامل البريد لحازم وينصرف.
يفتح حازم الرسالة، وعينه تتهلل فرحا..
- اه .. دعوة للسيد جاسم حسن لزيارة شركة الفراعنة ... هذا خبر سار.
- بعد ساعتين يرجع جاسم لمكتبه، والعرق يتصبب في وجهه.. وحازم بانتظاره..
- وش هالجو المتعب، الحراره والرطوبه اليوم صعبه جدا.
- تقدر تسافر مصر وتغير جو.
- تمزج يا حازم، هالاشغال فوق رآسنا واسافر؟ وانا انتظر جلسة المحكمه حتى أطّمن على بو راشد.
- تفضّل هالرساله.
- رساله!
مرّر بصره بسرعة خاطفة على سطورها.. وابتسم.
- اوه .. يعني امسونّها مفاجأه ...
- دعوه مهمه.. الاجتماع مع مدير شركة كيليوباتره وجوله في معارض شركات السيرميك، وإن كانت في ظرف حرج..
- ليش حرج.. بحمد الله مشكلة الوكاله محلوله، وما في شي يخوّف. والجلسه يمكن نحضرها ونبلغك بالخبر السار- توكل على الله.
- عسى عن صلاح.. رتب مع مكتب الطيران إجراءات السفر بعده بكره الاثنين .
شوهد المقال 1605 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك