جعفر يعقوب - العاشق البنّاء -٥٩-
بواسطة 2015-06-12 20:52:12

جعفر يعقوب
في صحوة الفجر تثاءبت شجرة السدرة، وتمغطت غصونها مثقلة بانتظار. لم تعد فاطمة تأتيها إلاّ قليلا، ولم تعد تهمسها عن حكاية قلبها الذي لا يزال يحجز غرفة في فندق مشاعرها
لجاسم، وسط جناح غرست فيه سدرة الحب، وفيأه بظلال كلماته.
تتذكر كيف كانت تجد صعوبة في البوح بمشاعرها لأحد، حتى انفرط عقد قلبها بعد أن غمره شلال هواه.
مع قلبها تعترف بأنها مازالت ملك قلبه ورهن إشارة ذكرياته.
لم يسرق أحد منها حبّه، وها هي وفيّة لكلمة " أحبّك"، تتنفس رائحتها رغم سنوات من غيابه.
حتى شجرة السدرة نفسها تعلّقت بفاطمة، همسها، حلمها الدافئ، فما أصعب أن يتعلّق قلبك بحبيب لا يكترث لمشاعرك، ويمعن في عذابك بهجره.
فاطمه مع أختها في براحة البيت.. عاتكة تمازح فاطمة:
- بكره يجيني معرس
غني ويسعدني، وأروح عنكم، وتتحسرين عليي.
- غني؟ والغني بيسعدش؟ السعاده مو بلفلوس.
- عجل بيسعدني بحار؟
شايفه لفلوس تمطر علينا؟ وانا بخنق من شهرين أراكض عليه!
تضحك فاطمة وتعانقها بدلال.
كان سترة تلفحها حرارة السموم، وشوارعها شبه خالية وقت الظهيرة مع رطوبة مزعجة
، عدا من رجل يحمل في يده شنطة سوداء، يسأل عن بيت الحاج أحمد الهدار، فيشير إليه رجل ثلاثيني يحمل على كتفه عدّة الإبحار بيده نحو جهة الشرق بقرب ساحل مهزة.
يتحرّك رتاج باب بيت الهدار، فثمت من يطرق الباب، ويرفع صوته باسم صاحب البيت.
- نعم.
يفتح الحاج أحمد الباب الخشبي المتهرئ:
- مكتوب ليكم.
- مكتوب ؟
- ويش فيه؟
- اقراه ابنفسك.
- اقراه ابنفسي .. خلني افك حرف أول.
أغلق باب بيته، وأحكم رتاجه، ودخل ..
- عاتكه.. فاطمه.( بصوت مرتفع ) .
- نعم يا آبي.
- تعالي شوفي هالمكتوب.
استلمت فاطمة الرسالة معنونة الغلاف بمحكمة البحرين.
- شوفي ويش مكتوب فيها.. اقري بالحامي ( بصوت مرتفع).
"صك إثبات الطلاق"
الحمد لله والصلاة والسلام على رسولنا محمد وآله الطاهرين، وبعد:
أنا راشد حسن راشد الرملي- بحريني الجنسية بموجب سجله المدني رقم ٣٦٠٠١٥٣٣- بلاد القديم .. قرّر بتوكيله الشيخ زين بركات بحريني بموجب سجله المدني رقم ٢٩٠٠٢٩٦٣- بلاد القديم ، العارف به قائلا: طلقت زوجتي فاطمة أحمد جاسم الهدار، بحرانية الجنسية بموجب سجلها المدني رقم ٣٩٠٠٧٧٨٥- سترة مهزة، وبناء عليه ثبت طلاق راشد حسن الرملي المذكور أعلاه لزوجته فاطمة أحمد جاسم الهدار المذكورة أعلاه بتاريخ
١٩٦٧/٦/٣، وأن على مطلقته العدة الشرعية حسب حالها، وأنها بانت منه بينونة كبرى، ولا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
كانت الكلمات سكاكين تقطع قلبها، وهي تتلفظها كلمة كلمة؛ رغم إحساسها بأنها طوق النجاة من غرق محتم، لكنه ألم الجرح،
تهلهل وجهزفاختة وربصوت مرتفع كأنها تحتفل بعرس فاطمة.
- افتكينا من هذا الهم. الحمد لله.
مشت فاطمة نحو غرفتها، لم تشارك أمها احتفالها بهذا الخبر الذي تمنته منذ زمن بعيد، فهي في نظر الناس مطلقة، وربما رآها بعضهم عارا، دون أن يعرفوا جزءا من حقيقة الصورة.
نعم هو المجتمع في قسوته، يغسل شراع امرأة طاهرة، ذنبها أنها كانت تحت سلطة رجل لا حدود لها، حتى لو جلدها بنظام السُّخرة الجائر.
بكت عيونها الصافية، حتى شعرت بالراحة، كالسماء تمطر؛ لتستريح من حمل الغيوم الثقيلة. بزغ قوس في سماء فاطمة بعد عتمة سنواتها العجاف، مسلّمة لقدرها، ومؤمنة بقضاء كتب عليها.
ليست نادمة على شيئ، كانت بالنسبة لها تجربة مثمرة، تعلمت منها الكثير، وفهمت منها الحياة بمجهر أدق.
لا يعنيها كثيرا الآن أن تكون مطلقة، فهي لعبة السنوات، يكفيها أنها جمعت ذكرياتها في حقيبة حتى لا تضيع ثانية منها، فتعيش دورتها من جديد، هي غنية بذكرياتها بمرارتها وعسلها، والآن تجمّدها في بنك وديعة مضمونة الأرباح؛ لتفتحها متى احتاجت لها.
في المعامير تحرّك البانوش محمّلا بنساء وأطفال وبعض من الشباب قاصدين عسكر لزيارة مرقد الولي الصّالح الشيخ إبراهيم بن مالك الأشتر (رض)؛ لاستيفاء نذر زواج أو هي العادة في زيارتهم مرقده والصلاة في مسجده.
كان الشراع يسير بين الأمواج في خفر وسكون، وقلوب النساء تخفق بالوصول سالمين بجاه الولي الصالح، حتى رسا البانوش على فرضة المسجد التي شيّدها أهل المعامير.
انتشر النذّارة في باحة المسجد ومرافقه، وتوزعوا مهامهم، فبينما تفرّغ الرجال لذبح ثلاث من الأغنام، استعدت بعض النسوة لتجهيز طعام النذر، واشتغلت من بقيت منهن في الصلاة المسنونة وقراءة الأدعية والزيارات المخصوصة، بينما وجد الأطفال والصبية فرصتهم في اللعب والتجوّل هنا وهنالك.
كانت أم زكي مع لفيف من النساء يتبركن بقطع خضراء من بركات الولي الصالح، ويطلبن من الله تلبية حاجاتهم بعد أن فرغن من قراءة حديث الكساء.
لم تنسَ أم خليل أن تدعو لأبنتها نجيبة بأن يرزقها الله مولودا بعد أن طالت خلفتها، أما سكنة فقد انزوت في زاويا من المسجد، وهي تتمتم متضرّعة بأن يتشافى زوجها من حالته النفسية، فما عاد يقاربها منذ عدة شهور، معتقدة بأنّ تابعًا من الجنّ أصابه، فحرمها منه، وهي لم تكمل السنة الثانية من زواجها.
أما أم عبد الله فلا تفارق شفتيها الدعوات لجاسم بعد رحيل حميدة.
كلّ شيئ يسير في رتمه الخاص، لا شيئ يخرج عن المنظومة المتوقعة، حتى الظهر؛ حيث تناول الجميع طعام النّذر.
- من يطب معاي البحر في شرق الفرضة؟؟
تردد الشباب، لصعوبة العوم في تلك الناحية؛ بسبب عمق المياه، وارتفاع الموج وضراوته.
أعاد جواد رضي التحدّي معتدّا بنفسه، فأثار حماس بعضهم للعوم في البحر، بينما تراجع البقية خوفًا.
قفز ثلاثة نفر في البحر، والموج يرتطم غاضبًا، جاهد الثلاثة عنفوان الأمواج، وبسرعة رجع اثنان لسطح الفرضة، لم يظهر الثالث منصور جعفر ميلاد، فهلعت القلوب هلعًا كبيرا عليه، وشيئا فشيئا يزيد القلق عليه، فيبادر الرجال صالح، وكمال للغوص بحثا عليه، هنا وهناك، ولكن دون فائدة.
- ما شفناه .. دوّرنا عنّه في كل مكان ...
- يمكن سحبته الأمواج بعييد.
- إنا لله وإنا إليه راجعون.
- وين يكون راح؟
- فجيعه .
تصايحت النساء بكاء على الفقيد منصور، وساد الحزن بينهم، وخنقت الشهقات صدورهم لهول الفاجعة، وهم يتوسلون، ويطلبون من الله ببركة الولي الصالح إن يغيثهم من هذه المصيبة الفادحة.
لم ييأس بعضهم، واستمروا يبحثون عنه، لكن الشمس انحدرت للغروب، والظلام بدأ يخيّم، فلا أمل في نجاته.
رجع بانوش النذّارة في ، ولكنه مجلل بالحزن على الفتى المفقود الذي غدر به البحر.
شوهد المقال 969 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك