جعفر يعقوب - البناء العاشق -٥٧-
بواسطة 2015-06-07 22:50:34

جعفر يعقوب
سنوات خصبة وافرة بغلال الخبرة، ليست بالكثيرة التي أفناها جاسم من عمره عاملا في شركة نفط البحرين، لكنها كفيلة بأن تفتّح رموش عيونه ؛ليرى ما هو أبعد. لم يحولّه ضجيج الآلات التي يعمل عليها وصخبها إلى آلة مثلها، بل لم يفقده قيمة نفسه.
كثيرون هم الذين تحوّلهم الآلات الصماء إلى شبه آلات، لم يبقَ من حياتهم متنفسٌ إلاّ رغبتهم في النوم أو الأكل اضطرارا، لكي يواصلوا عملهم كآلات إنتاج، لكن متعة الحياة ذوت عندهم، ونظرتهم المشرقة للمستقبل اضمحلّت بفعل الآلات الصماء.
لم يكن جاسم يرغب أن يكون واحدا من هؤلاء الموتى.
هاهو يخطو خطوة جديدة بقرار شخصي، فقط والده وأخوه عبد الله يعلمان عنها حين أطلعهما مستشيرا.
٨ سبتمبر ١٩٦٦، في العاشرة وثلاث وعشرين دقيقة صباحًا، يضع جاسم خطاب استقالته على مكتب مستر جون هوبيرن في لحظة مفاجئة .. يقرأها هوبيرن مندهشا.
- ما هذا ؟ استقالتك؟
يؤسفنا ذلك! استقالتك جاسم. نحن نبني عليك آمالا كبيرة في الشركة، خاصة بعد عودتك من البعثة. ما تخطيطك لعملك بعد استقالتك؟
- سأشتغل في التجارة، العمل الحر مربح أكثر.
- تفكير ذكي راشد، لا مانع ما دمت ترى مصلحتك في ذلك. أتمنى لك مستقبلا ناجحا.
- شكرا مستر هوبيرن أنت شجعتني كثيرا في عملي، وفتّحت عيني على أمور سأستفيد منها في حياتي.. وقرار استقالتي يأتي في هذا الجانب.
- حظا سعيدا، جاسم.
قضى شهرين في كدح، يصبو لطموحه، ويؤسس لمحله التجاري الذي يرغب في افتتاحه في المنامة على شارع سلمان، لبيع المواد الصحية ولوازم البناء.
يمتنّ جاسم بالفضل لمحمد علي السماك زميله في العمل الذي لم يتوانَ في مساعدته؛ متوسطا له عنده خاله جاسم الفاضل لاستئجار المحل التجاري في مبناه.
لم يترك الوقت يمضي على هواه، فجدّ في البحث عن ممولين لتأمين مواد البناء والصحية لمحله؛ حتى تحقق له ما أراد.
حدّد له هدفه، و خطّط إليه، لكن وهم المادة وشبح الثراء السريع لم يغريه ببريقه. خطّ عبارة بخط جميل، وعلّقها في مكتبه " القناعة كنز لا يفنى".
رأى، سأل، تعرّف؛ ليفهم رياح السوق واتجاهاتها ، ليحمي مشروعه الصغير، وينميه حتى يفرع شيئا فشيئا.
لم تكن البداية سهلة، فالسوق أمامه ملغومة بالأشواك، لكنه لم يستسلم، فهو يدرك وعورة البداية، ولا بد أن يتدرع بحزام الصبر، وأن يخطط بعناية؛ لكي لا تغوص رجلاه في الوحل البداي، ويقف على رجليه ثابتا.
في وكالة الرملي يتقلّد شاكر السرو منصبه من جديد معززا من الحاج الذي يحمل له في قلبه مكانة الولد.
- هذا مكانك يا ولدي، انت بنيتها هالوكاله بحبات العرق، حتى كبرت وصار لنا اسم في السوق.
قبّل جبين رأس الحاج:
- انت يا حاج بمنزلة الوالد، وانت اللي منحت لي فرصة أتعلم في السوق.
- بارك الله فيك يا ولدي.
- لكن يا شاكر، وبعد غيابك انشغل البال وراح اللي يصرّف العمل، وراشد ما عنده فهمك وحكمتك، فتراكمت علينا الديون، والله المستعان.
- إن شاء الله ترجع الأمور كما كانت وأفضل.
- يا رب .
تنفس الحاج الصعداء، وخرج. أحس شاكر بالغليان في قلب الحاج، والهم الذي يلتهب في صدره، ديون الوكالة من جهة، وسجن راشد من جهة أخرى.
في مكتب مدير مركز المنامة يحضر راشد مقيدا لمواجهته باعترافات جويبر وأقواله خلال التحقيق معه.
- هل أنت شريك جويبر في سرقة الوكالة؟
- لا .
- من سرق خزينة الوكالة؟
- ما أدري.
- جويبر تم القبض عليه، ويدّعي انت السارق والمحرض على السرقة، والأموال عندك، وأنه يعمل معك فقط.
- لا.. هذا غير صحيح.
- ويش مصلحة جويبر باتهامك.
- ما أدري.
- يا راشد إنكارك ما راح يفيدك وبصماتك وبصمات شريكك واعترافه إدانه لك. ثانيا الان التهم الموجه لك تزيد، كونك شريك له في جريمة تهريب المخدرات.
- تهريب المخدرات؟
- ايه تهريب المهدرات بالفلوس اللي انسرقت من صندوق الوكاله اشتريت كميه من المخدرات من السيد ماثيو، وهذي جريمه قد تصل عقوبتها إلى عشر سنوات على الأقل.
وجد راشد نفسه محاصرا بجريمه أخرى، لا علاقة لها به، فاحتار بين فضيحة سرقة الوكالة وحدها، أو يحمل وحده الجريمتين.
- المبلغ المسروق من الخزينه هو المبلغ المدفوع لشراء المخدرات لترويجها في البحرين والتكسب منها على حساب صحة الناس يا راشد.
- لا . لا .. انا ما لي علاقه بالمخدرات.
- يعني انت شاركت في سرقة الصندوق بس؟
- ايه نعم بس الصندوق.
- طيّب. وين المبلغ المسروق من الوكاله؟
- عند جويبر، احتفظ به.
- ليش؟
- حسب كلامه بيدلني على تاجر يعرفه يساعدني على فتح مكتب عقارات.
ضحك الضابط.
- مكتب عقارات؟
- ايه، أخذنا المبلغ من خزينة الشركه حتى أفتح لي مكتب عقارات أشتغل فيه.
- لكن جويبر خدعك واشترى مخدرات بالمبلغ اللي سرقته مع جويبر. وين عقلك؟ وين تربيتك حتى تسرق أقرب الناس إليك؟ ما تعرف أن حبل الكذب قصير، وأن السارق مهما كان ذكي لازم يترك دليل ضده؟ كيف بتواجه أبوك اللي تعب من أجلك.
عندك أقوال تريد إضافتها؟
- لا .. بس شاكر ما له علاقه بسرقة الوكاله..
- شاكر خرج من يومين من السجن، واحنا نعرف أنه بريئ، واعتقاله هو السناره اللي اصطادتك انت وجويبر.
ملازم فريد تحتفظ بكل الأدله والاعترافات ضد الجاني؛ لتعرض في النيابة بكره .
هي اللحظة التي لم يحسب راشد لها! الدنيا تدور به، والعذاب مرجل يشتعل، والخوف يرسم في عينيه سحابة سوداء تمطر عليه قتامة الندامة، يتمنى لو يموت الساعة قبل أن يرى أباه، أو ينظر في عيونه، لكن تحطّم حلمه، وخسر كل شيئ. الندم المرير وحده هو الثروة التي جناها، والوحدة القاتلة التي سيغرق فيها بعد أن باع أغلى الناس عنده .
شوهد المقال 1003 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك