جعفريعقوب - العاشق البناء -٥٤-
بواسطة 2015-06-02 21:49:04

جعفر يعقوب
تتداخل الأصول والأنساب في تلك القرية الهادئة، فتكوّن نسيجًا حميمًا وتوليفة اجتماعية لا يعكر صفوها عروقها المتجذرة في شعب مختلفة. بل في هذا التنوّع فضاء واسع من الانسجام، يزداد مع بساطة العيش وضنك الحياة تراحما وانصهارا.
في قهوة شباب المعامير - وتحديدا ليلة الجمعة - حيث يزدحم المقهى بمرتاديه من مختلف الأعمار صخت الأسماع لجاسم، وهو يتحدث عن مشاهداته في لندن، وهم منجذبون إليه، وكأنهم يسمعون عن بلاد العجائب أو يشاهدون فلما وثائقيا مصوّرا عنها.
- ونسواهم؟ يجاسم يقولون مثل الكيمر؟
يضحك جاسم، ويجيب عليه:
- طبعا المره في بلادهم تختلف عن المره في ديرتنا.. هناك متساويه مع الرجال في كل شي، ومتحرره من القيود، وتشوفها مع لرجال في المسارح والمنتزهات والأسواق والبارات والأعمال، واتبيع في الدكاكين، و ...
يقاطعه سيد شبر سائلا:
- ويش البارات تطلع؟ البراري ؟
- لا يا سيد، البار مكان يشربون فيه الخمر ويرقصون ويغنون..
ينفعل السيد بانزعاج:
- أستغفر الله، ما عندهم دين، ولا يخافون الله.
- إحنا دينا يعلمنا الأخلاق والشرف والعفه، لكن الغرب عندهم حضاره ماديه ما تهتم بالروح والمعنويات.
يعقب سعود:
قال السيد صالح الكفار مثل الغنم بس يهتمون بالبطن والجنس.
يقاطعه جاسم بهدوء مصححا:
- انا شفت عندهم أمور واجد ايجابيه، احنا مسلمين نفتقد هالأشياء، مع أن الدين يأمرنا بها، مثلا طلب العلم، مثل النظام، حرية الرأي، فكل واحد يعبر عن رأيه وينتقد حتى الحكومه بحريه.
الغرب بلد الحريات، والمرأة أيضا لها حقوق، تتعلم في المدرسة والجامعة او تشتغل وتسوق السيارة..
فيضحك الجميع مندهشين من هذا العالم الغريب.
يعود السيد شبر مستنكرا :
- ذل قوم حكمتهم امرأة، وش خانتنا اذا المره تشتغل وي لرجال، باچر الرجال يطبخ في البيت والمره هايمه من سوق لسوق، سوّد الله وجوهم، ما عندهم غِيره ولا حميه.
ويآزره سعود:
- الله بيخسف بهم، ويسويهم قرده وخنازير.
- يا سعود، المفروض نآخذ الأشياء الزينه من عندهم، ونترك الأشياء اللي مو زينه، والإمام علي عليه السلام ويش يقول؟ " اطلب العلم ولو في الصين". إحنا نريد نأخذ منهم المفيد، ونتجنب اللي فيه ضرر، صح يا بو هاشم؟
- كلامك عدل.. عدل يا جاسم.
أما سعود فيصر على قناعته:
احنا عندنا القرآن فيه كل شي ولا نحتاج ليهم.. هالانجليز وسخين ، احنا انشوفهم في الشركه يدخلون الحمام ولا يطهرون .. خل عنك يا جاسم، هذولين أولاد أبو جهل وابو لهب..
يمسك جاسم بطرف الحديث، ويسترسل:
- يا سعود، مو لهدرجه.. احنا شفنا شوارعهم نظيفه، وبيوتهم، ومنتزهاتهم، وأزيدك ان اللي يرمي أوساخ في الشارع يغرمونه افلوس، وبعض المخالفات عليها سجن.
- انت يا سعود ويش عرفك بهم، انت حدك تروح لعكر تشتري رويد وبقل وبطيخ.
علق يعقوب، فتفجرت ضحكاتهم، وغضب سعود، فتركهم متجها إلى بيته، لكن يعقوب لم يتركه في حاله:
- ادري هربت حتى ما يصكون عليك باب بيتكم وتبيت في الطريق..
فيزيد حماسهم للمزاح والضحك.
لكن مزعل يبدد مزاحهم، ويأخذهم للجد، بدخوله عليهم بسؤاله:
- سمعتون، يوم الجمعه الجايه، بيرحون مسجد شيخ ابراهيم في لنج ( جالبوت) حاج عباس؟
يضيف هلال:
- بيبنون فرضه للمسجد، توقف عليها لجنات الزوار، وبيسوون ترميم للمسجد.
- عجيب، خلونا نروح شباب كلنا شيخ ابراهيم.
- فكره حلوه، انا معاكم.
- ترى ناس واجد بيروحون، من الصبح بيطلعون.
وتستمر سهرتهم بين جد وهزل بنكهة تمزج طيبتهم وبساطتهم، وربما تخلله عنف كلامي، سرعان ما يذوب كالثلج، وهم يشربون الكوكا كولا أو الشاي، لا يخلو من مرح لعبة الكيرم والورق ( البتَة) ومتابعة نشرة الأخبار في أثير موتوكارلو أو إذاعة لندن.
في عصر الجمعة بمجلس الحاج حسن الاسكافي بعد أن انتهى الملا أحمد من قراءة المجلس الحسيني ( القرايه) كما يسمّى، يمسك الحاج طاهر بالنارجيلة( الغليون) فيسحب منه نفسًا عميقًا بمتعة، فيتطاير الدخان في كل ناحية، بينما انشغل الآخرون في احتساء القهوة أو شرب الشاي، وفي أحاديث شتى.
رفع الحاج طاهر رأسه بعد أن سعل عدة مرات تخرج من جوفه من حرارة التتن، ونحافة جسمه بعد تقدّم عمره..
- امس في البندر احمد الفرحان مال مهزه يقول في ستره بيسوون مدرسه للبنات؟
يؤيد الأستاذ أحمد الصفواني كلامه:
- كلامك صحيح يا ابن جده.
لكن حاج منصور بن أحمد يعلّق ساخرا:
- مدرسه للبنات؟ هذا آخر الزمان!
فيواصل الأستاذ:
- طلب العلم فريضة على كل مسلم ومسلمة.
- عاد مو في المدرسه، تتعلم القرآن وتحفظه.
- المرأة جزء من المجتمع، وإذا تعلمت ساهمت في تربية الأجيال، ما سمعت قول الشاعر أحمد شوقي:
الأم مدرسة إذا أعددتها .. أعددت شعبا طيّب الأعراقِ
- ينتهز جاسم الفرصة، ليعمق فكرة الأستاذ:
- المرأة في بريطانيا تتعلم في المدرسة ثم الجامعة، وتساهم في بناء بلدها في المستشفيات والمدارس، والمجتمع لا يتطور إلا بتعليم المرأة، لأنها نصف المجتمع.
يبادر الملا أحمد قائلا:
- سمعت أن الاستاذ جمعة منديل راح للشيخ منصور الله يحفظه وكلّمه عن بناء مدرسه في ستره، والشيخ ما اعترض، ولو تعليم البنات في المدرسة حرام ، چان اعترض الشيخ الله يحفظه. وقال أستاذ جمعه: يا شيخ خل بناتك يتعلمون في المدرسه، حتى الناس تجيبون بناتهم المدرسه.
- الآن افتتحوا مدارس للبنات في المنامه، في المحرق.
يعترض منصور بن أحمد رافعا صوته:
- لو وحده من بناتي أشوفها بتروح المدرسه حشيت ارجولها حش.. والله ما تطلع من عتبة البيت الا لبيت زوجها بس.
فرد عليه الحاج حسن الإسكافي:
- يا ولد عمي.. العقل زين والبصيره تنفع، الناس خافت من قبل من المدرسه والان كل الناس يودون أولادهم المدرسه.
أخذ الحاج منصور النارجليه وشفط منها نفسًا، تعبيرا عن عدم اقتناعه من فكرة تدريس البنات في المدرسة. تهامست بنات القرية بغبطة حين سمعن الخبر، ولكن بحذر وهمس، خوفًا من غضب الرجال.
أما السيد أمين الذي عاش في المنامة ردحًا من الزمن ودخل كنائسها، فكان جريئا ومصمما على تدريس بناته في المدرسة، لتكتحل أهداب عيونهم بالمعرفة.
شوهد المقال 1241 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك