جعفر يعقوب - البنّاء العاشق - ١٧-
بواسطة 2015-03-30 01:26:36

جعفر يعقوب
يمرّ بها شريط من الذكريات كفلم سينمائي بالأسود والأبيض، عالق في ذاكرتها، ترى نفسها طفلة صغيرة ترتدي بخنقًا مزركشًا يغطي شعرها، وثوبا فضفاضا( قُوَنًا)، وجدائلها الطويلة تنسدل على كتفيها، فتبدو بهيئة امرأة كبيرة، فتضحك أمها وهي تنظرها، وتحضنها بحنان ..
- أماه ! هل أشبهك؟
- نعم .. يا حبيبتي
فتشعر حميدة بدلال أمها بغبطة.
هي حميدة نفسها وشبيهة أمها رقّةً وحنانا وهدوءًا، بعد قسوة القدر عليها بموت أمها وهي بنت الستّ سنوات، تقاسمها همومها أيضا، بعد أن عانت من المرض الخبيث، تراها أمام عينيها ينحل جسمها، ويذبل جمالها، ويقسو عليها الألم، حتى جاءت خالتها أم عبد الله وأخذتها إلى منزلها، لتلعب مع ابنة خالتها نرجس، دون أن تدري سبب ذلك، كانت خالتها تمنحها الرحمة والشفقة، ومنذ ذلك اليوم لم ترَ أمها.
والآن هي في ذات البيت تعود إليه زوجة.
ألفت حميدة مسكنها الجديد، وتعايشت مع العائلة دون أن تشعر بالغربة، تكنس وتنظف وتطبخ، وقد مرّ على زواجها أكثر من سبعة شهور، رغم ما يجثم على صدرها من ضجر بسبب جاسم وشروده غير المفهوم ، لكنها محبوبة من الجميع صغارا وكبارا؛ فطيب شمائلها ورقة سجاياها تزيدها إكبارا، فهذا عمّها الحاج حسن يكنّ لها مودّة خاصة بين نساء أبنائه.
طرقت حميدة باب غرفة عمّها بعد العشاء، وأدخلت إبريق الماء الساخن، ووضعته بين يدي عمّها ( أبو عبد الله ) .. بادلها التحيّة، ثم خرجت.
كانت أم عبد الله تمسّج رجلي زوجها الذي أنهكته مشقة العمل، وهو يبحر بالبانوش منذ الفجر في فشت الديبل مبتعدا مسافة ثلاثين كيلو مترا بالقرب من شبه جزيرة قطر، حتى عادا في الثالثة عصرا بصيد وفير من سمك الهامور والشعري، وربما أسعفه الوقت فاصطاد سمك الكنعد من أبو شلوط القريبة من الديبل.
- وش حلاوتها هالمرأة ، طيبة وخدمة وجمال.
- ما تقصر حميدة، طول النهار تخدم، ولا تشتكي من العمل في هالبيت الكبير..
- الله يسعدها بجاسم ويرزقها بالذرية الصالحة .. يسكت برهة ثم يستدرك:
- امممم ، أم عبد الله .. باسألك: ما بيّن عليها شيئ؟
- للآن ما ظهرت عليها علامات الحمل؟
- مسكينة .
- سألتها أكثر من مرة، ماردت، حسيت أنها محرجة، وتهرب من الإجابة ..
- عسى خير (فَاِنْ أَبْطأَ عَنّي عَتَبْتُ بِجَهْلي عَلَيْكَ ، وَلَعَلَّ الَّذي اَبْطأَ عَنّي هُوَ خَيْرٌ لي لِعِلْمِكَ بِعاقِبَةِ الاُْمُورِ ..).
الخلفة زينة الحياة الدنيا، عسى الله يكتب له السعادة معاها.
- الله يسمع منك يا حاج.
- تسلم يدك على هالمساج .. طفّي الليت يا أم عبد الله، وغلقي الباب.. وتعالي ارتاح يا بعدهم انت.
في تلك اللحظة كانت حميدة استلقت على فراشها واستغرقت في نومها منهكة من تعب شغل البيت، بينما كان جاسم يتأمل وجهها الملائكي بشفقة، وقلبه يوخزه بإبر أحد من الشوك من تأنيب الضمير، وهو يجول في معترك من الأسئلة مستحضرا حديثه مع صديقه القديم على البحر..
- وش بيصير فيها لو علمتها بالحقيقة؟
- يمكن ترتاح حميده من القهر والحرمان؟
- وش تقول عني الآن ؟ قاسي .. ما عندي إحساس .. معذوره يا بنت الخاله..
- حميدة ألف من يتمناها، لو ...
- محنتي أكبر من هذي .. من بيتفهمني .. من بيعذرني .. آه .. آه
نهض من الكرفاية خطوات، وهو يرددّ كلمات حفظها من أخيه عبد الله يقولها كلما شعر بالضيق:
ويش ليك يا دهر النوايب
كل يوم تسقيني مصايب
محروم من شوف الحبايب
شوهد المقال 1274 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك