جعفر يعقوب - البناء العاشق - ٨ -
بواسطة 2015-03-18 13:17:55

جعفر يعقوب
تصحو فاطمة مع زقزقة العصافير وهي تعزف ألحان الصباح كجوقة موسيقية على شجرة السدرة التي تركن في ناحية من بيتهم.. تنتظر الساعات تمر؛ ليطلع عليها شمس النهار ببشرى سارّة تبدد الكابوس الذي داهمها ليلا، وحرمها لذّة النوم.
مشت كحمامة بيضاء إلى حيث شجرة السدرة تنتظر عودته، ليطمئن قلبها بالنظر إليه، ولو من بعيد.. هاهي فاطمة تذرع المكان حينا، وتلوذ بالسدرة حينا آخر مضطربة منزعجة.
لمحتها أمّها التي شرعت في أعمال البيت باكرا كعادتها اليومية، فجاءت إليها:
- فاطمة! ويش فيك؟
- ما فيني شي.
- ما فيك شي ؟ مريضة؟ وش امقعدنك هنا هالوقت.
- ما فيني نومه بس .. فجيت أشم الهواء.
خطت الأم راجعة لتزاول عملها، لكن وجه فاطمة منخطف، هكذا حدثها قلبها، فهي تعرف ابنتها جيدا، ثم تمتمت : عساه خير، والله يحفظك يا بنتي.
مضى الوقت ثقيلا على فاطمة، وقلبها مشغول بجاسم، تنتظره بلهفة المحب، واشتياق العاشقين.
- يا الله ..يا الله
تلك النداءات وطرقات الباب الخشبي، والصوت المعتاد في مثل هذا الوقت أفزع قلبها، فأسرعت لفتح الباب لعمال البناء، فهذي نهاية الانتظار وموعد مجيئه، وهكذا فعلت رغم ثقل مزلاج الباب الخشبي، لكنها نجحت في فتحه. دخل الأول ثم الثاني ثم الثالث، وانتظرت، لكن الرابع لم يدخل. فأوصدت الباب، وقلبها يتفطر لوعة وحزنا.. جاسم لم يكن معهم!
لماذا لم يأت؟ ماذا جرى له؟ وكيف تسألهم عنه؟
أين أنت يا حبيب قلبي؟ واختنقت بعبرة محبوسة ثم ركضت إلى غرفتها.
جلست القرفصاء في ركن من الغرفة تذرف دمعاتها على خدّها، وتئن أنين الثكالى بصوت منخفض.
استيقظت أختها عاتكة من أناتها المتقطعة ونشيجها المحرق والتي اخترقت منامها، فجاءت إلى جنبها مذعورة، وأمسكت يدها:
- ويش صاير؟؟
- فاطمة، أبي صار له شيء؟
- من ؟ خبريني -
- مو صاير شي قلت لك.
- واصياحش ؟
- ما في شي.. روحي نامي.
- ويش فطوم ؟ انت متغيرة، مو هذي طبيعتك! قولي يمكن أقدر أساعدك ..
واختنقت فاطمة معولة ودمعات تنحدر على وجنتيها.
أدركت عاتكة سرّ أختها، إذن هو الحب، واستعادت مشهد وقوفها معه بأنه لم يكن عابرا، بلى هو الحب يصدّع جدران قلبها! ضمتها إليها بحنو وشفقة عسى تخفف عنها تباريح الوجد ومرارة الاشتياق.
مرّت ساعات والحاج عبد الله ينهي عمله، فقد اكتمل البناء الجديد، وها هو الحاج أحمد يحتضنه مودعا له وشاكرا إياه على تفانيه في عمله، مع رفاقه، ثم ينعطف قائلا:
- سلموا على جاسم ، عسى الله يشافيه ويعافيه من مرضه.
بينما كانت فاطمة تراقب المشهد من غرفة مجاورة سمعت كلام أبيها كسهم أصابها في لبّة قلبها، ورددت بهمس:
- مريض؟؟
دارت بها الدنيا، واحتبست أنفاسها، فقد عرفت سبب غيابه، وهو الذي لم يجفها يوما، منذ وطأت رجلاه هذا البيت.
- ما مرضه وعلته؟ ليتني أستطيع أن أفتت قلبي وأداويه به؟؟ كيف لي أن أطمئن عليك يا عزيز روحي وأنت بعيد عني؟ وكيف لي بوصالك وأنت فاجأتني بغيابك؟ ترى كيف سألتقي بك؟ ليتني أستطيع أن أكتب لك رسالة يحملونها إليك، أضمخها برائحتي، وأطيّبها بقبلاتي لتعانقك يا حبيبي؟ وغرقت بدموعها بنشيج حزين.
شوهد المقال 1405 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك