نَْحْنُ و بَغْلَةُ عُمَرْ

إنَّ البَغْلَةُ الَّتي أَتَتْ على لٍسانِ سيدِنا عُمَرُ بنُ الخطَّاب رضي الله عنه وأرضاه، ما كانَتِ بِزَلَّةِ لِسانٍ، وما هي بكلامٍ عابرٍ، وما كان عمرُ يبيعُ الكلام، بَلْ أرادَ الفاروقُ مِنْ خِلالِ ذلك، أَن يَضْرِبَ لَنَا مَثلاً بسيطاً، في المسئوليةِ و العَدْلِ، كَرِسَالَةٍ بِمُوجَبِهَا نَفْهَمُ بِأَنَّ الحَاكِمَ مَسْئولٌ أَوَّلْ، حَمَلَ أمانة لَمْ تَحْمِلها السَّمَواتِ والأرض، وأَشَفَقَتْ الجبالُ مِنْ حَمْلِها لِعِظَمِها وكبيرِ شَاْنِها.
لَقَدْ كانت بَغْلَةُ عُمَرْ رسالةٌ لِكُلِّ مسئولٍ، عن خُطورةِ المَسئولية ولَوْ على أبسط مخلوقات الله، والتي يَحْتَقِرُها الكثير مِنْ النَّاس، فالحاكِمُ ها هنا تَقَعُ تحت حُكْمهِ كُلُّ الكائناتِ، الَّتي تَحْتَمي وتعيشُ في جُغرافية حُكُومَتِهِ أو إمارتهِ، وتَقَعُ تحت طائلةِ حُكْمِهِ، مِنْ أَبْسَطِ مُواطِنٍ إلى أَرْقاهُمْ شأنًا دْونَ أَيِّ مَيْزٍ.
فالبَغْلَةُ في هذا المقامِ يُضْرَبُ بها المَثَلُ هنا، كَوْنُهَا مُجَرَّدُ بهيمَةٍ عَديمةُ الأَصْلِ، فَلَا هي مِنْ سُلَالَةِ الأَحْصِنَةِ العريقَةِ، ولا هي مِنْ فصيلَةِ الحَميرِ المُهانَةُ لَدَى البشرِ؛ فقد كان القُدماءُ مِنْ العَرَبِ وغَيْرِهمْ، يَضْرِبونَ بها الأمثالَ لِمَنْ لا نَسَبْ لَهُمْ، ومَنْ هم مَنْبوذونَ مِنَ البَشَرْ في مُجتمعاتِهِمْ.
وهذا ما كان يَرْمُزُ إليه سَيِّدُنا عُمَرْ، أَيْ أَنَّهُ لا فَرْقَ عِنْدَهُ في المسئولية بَيْنَ مَنْ هُوَ شَريفُ ومَنْ هُوَ عَديمُ النَّسَبِ، وهذا عَدْلُ عُمَرُ، وما أَدْراكُمْ ما العادلُ عمر الفاروق الَّذي فَرَّقَ بينَ الحَقِّ والباطِلِ.
أمَّا في أيامِنا هاته، في هذا العالَمِ، المَبْني على اسْتِعْبادِ البَشَرِ والتَمْيِّيزِ بينَهُمْ، وبالأَخَصِّ في بلادِ العَرَبِ والمُسْلمينَ على الخُصوصِ؛ أيْنَ الملايِّينَ مِنَ البَشَرِ مِنْ مُخْتَلفِ الدِّياناتِ والجنسياتِ، وخاصة المسلمين منهم، يَمُوتُونَ مَوتًا جَمَاعِيًا دُونَ أَدْنَى رَحْمَةٍ ولا شَفَقَةٍ، تَقْتُلُهُمْ المصالِحُ الشَّخصيَّةُ الضَّيِّقَةُ بِاسْمِ مَنْ يَحْكُمُ مَنْ؟ في كامِلِ الأَقْطارِ العَرَبِيَةِ، سوريا، اليمن، ليبيا، فلسطين، تُنْتَهكُ الحُرُماتُ و تُداسُ الحُرِّياتُ، فَلَا قَلْبُ حاكِمٍ يَتَحَرَّكْ أو يَدْفَعٌ عنهم، ولَا نَسْمَعُ مِنهم غَيْرَ التَّنْديدِ والإدانَةِ والاسْتِنْكارِ.
لا ضميرٌ حيٍ يَنتفضْ، ولا قَلْبِ حاكِمٍ يَفْزَعْ مِنْ عَذابِ جَهَنَّمَ، أو يخشَى غَضَبَ الله، في كُلِّ ساعةٍ فيها تُنتَهكُ الحُرُماتُ، تُسْفَكُ الدِّماءُ، تُهْضَمُ الحقوقُ، يُخْتَطَفُ الأَطْفالُ، تُغْتَصَبُ النُسْوِةُ.
كُلَّ دقيقةٍ وكُلُّ لحظةٍ، تُسْرَقُ الفرحةُ والبَسْمةُ من وُجوهِ فَلَذَّاتِ أَكْبادِنا، أماَم مَرْأَى ومَسْمَعِ حُكَّامِنا، حُكُّامُ غابَ عنهمِ عَدْلٌ الفاروق عُمَرْ، وإنْ كُنَّا نَموتُ بِصَمْتِهِمْ وخُذْلانِهِمْ؛ لأنَّ قَلَبوهُمْ وضَمَائِرُهُمْ ماتتْ قَبْلَ مَمَاتِ شُعوبِهِمْ، وكَأَنَّهُمْ قالوا قُلوبُنا غُلْفٌ.
وليس كلامهُمْ فَحَسْبُ؛ بَلْ فيهم مَنْ يَقومَ بِفِعْلِ الإجْرامِ، فَيُجْرِمُ في حَقِّ شَعْبِهِ الَّذي بايَعَهُ و وَلَّاهُ أَمْرَهُ، فَتَوَلَّى عنه.
شَعْباً يعيشَ تحت رَحْمَتِهِ بالتَّقْتيلِ والتَّنكيلِ، فما كان مَصيرُهُ سِوَى الهِجْرَةُ، واللُّجوءِ إلى بِلادِ العَدُوِّ، فِراراً مِنْ طغيانِ بَني جِلْدَتُهُمْ.
إنَّ الحُكَّامَ الَّذينَ أرادوا إكْراهَ شُعوبِهِمْ وإخْضاعِهِمْ لهم، بإركاعِهم وإذْلالِهم، أرادوا أنْ يَجْعلوا منهم حَجَرَ أساسْ، ليسَ لِبناءِ دَولةُ قانونٍ قائمةٍ على العَدْلِ كَعَدْلِ "عُمَرْ" والعَدْلُ أساسَ الحَكْمِ؛ إنَّما أرادوا أنْ يَبْنوا على أجَسادِهُمْ وجُثَثِهُمْ، مَمَاليك هُمْ فيها مُلُوكٌ، يُوَرِّثونَها لِمَنْ هُمْ بَعْدَهُمْ مِنْ أَبنائهم وذَويهم، على أساسِ سياسَةِ التَّوريثِ، بِاسْمِ القَرابَةِ مِنَ الحُكَّامِ، يَسْتَعبِدون عُمُوم الشَّعبِ، يَبيعونَهُمْ ويَشْتَرونَهُمْ كَعبيدٍ لَهُمِ؛ بَلْ كَقِطْعانِ الماشيَّة.
إنَّا ما نراه اليومَ مِنْ توريثِ الأبناءِ في الحُكْمِ، وخُلْدَ بَعَضِ الحُكَّامِ فَوْقَ سُدَّةِ الحُكْمِ، ما هو إلَّا دَليلٌ على أنَّهُمْ ليسوا مَسئولينَ بِدَرَجَةِ مَسئولِيَّةِ عُمَرُ.
هذه هيَ بَغْلَةُ عُمَرْ الَّتي ساقَها كَمَثَلٍ، ودَرْسٍ لِحُكَّامِ العَرَبِ و المُسلمينَ
بقلم: رمضان بوشارب
شوهد المقال 933 مرة
التعليقات (1 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك