سعيد لوصيف ـ الفهم وَالتشخيص يسبقان تحديد المسار..
بواسطة 2020-11-14 02:11:16

د. سعيد لوصيف
يعتبر الفراغ الملاحظ حاليا في مؤسسات الدولة حالة باتولوجية نتجت عن سيرورة إفشال نسقي بدأ تاريخيا منذ ما قبل الاستقلال. وبطبيعة الحال فأنا أدرك جيدا أن تناول هذه الظاهرة يبقى أمرا معقدا يستقطب أحيانا الكثير من العواطف والانفعالات وأحيانا أخرى توجّسات وتخوّفات من مصارحة الآخر والذات، إلا أنه وبالرغم من كل هذا فهو يبقى يستدعي منّا نقاشا هادئا يقارب الحقائق من زوايا متعددة ومختلفة قدر المستطاع.
وصراحة، فإنّ كلامي في هذه العجالة لا يهدف إلى تلبية حاجيات نفسية لذوات متعبة ألفت سماع خطاب يريحها ويبعد عنها عناء التفكير والتدبّر، لكن الهدف منه هو المساهمة في فهم الظواهر والعلاقات والحقائق ؛ ذلك لأن الفهم يسبق التشخيص ورسم الحلول و السياسات. وعلى أية حال، فكل ما انا واثق منه هو أنّني لازلت أؤكد بإلحاح والتزام على ضرورة بعث سيرورة تفكير على المدى القصير يسمح استراتيجيا بإعادة هيكلة النقاش وتصويبه نحو الإشكالية الرئيسة والمرتبطة أساسا ببناء الدولة الحديثة ومتطلباتها السياسية والتنظيمية، وآليات ممارسة الحكم، والتنظيم المتوازن للسلطات، والتوزيع العادل للثروة، في ظلّ المتغيرات الاجتماعية والدولية الراهنة.
أما حاليا وفي خضم الضغط الزمني الذي يحاصرنا، فالأمر يتطلب - على ما أعتقد - حسن رؤية وتدبير لإعطاء "الممكن السياسي" فرصة تاريخية لبعث ديناميكية في المجتمع تدفع به وبمؤسسات الدولة نحو التحول المنشود.
ومهما يكن، وحتّى أبقى صريحا مع نفسي والآخرين، فإنّني أرى أنّه من بين المؤسسات الأولى التي يتعيّن عليها انتهاج تحوّل استراتيجي تبقى المؤسسة العسكرية، وبالضبط قيادتها من حيث وظيفتها في القيادة وادارة السياسات والعمليات، وهذا في ظل تحولات سوسيولوجية داخلية ضاغطة، وتحولات عالمية لامتناهية، وفي ظل محيط يعرف أيضا الكثير من الارتياب وعدم الاستقرار. فالمسألة لا تخص هذه المؤسسة لوحدها او تخص إطاراتها ، بل هي مسألة مجتمعية تندرج ضمن مسعى إرادة تحول جمعي. وبهذا المعنى، فإن المسألة تتعدّى التصور التقناوي من حيث التنظيم والهيكلة والاحترافية، بل ينبغي أن تتبلور في تصوّر شامل يخصّ مجتمعا بأكمله وحقّ أفراده ومكوناته الاجتماعية والسياسية في رسم معالم مؤسسة حديثة تساهم بشكل وظيفي وفعّال في ضمان أمن الدولة والمجتمع والانسان.
وبعيدا عن أي التباس أو استخدام سياسوي للموضوع، فإنني أرى من الناحية التحليلية أن المؤسسة، مثلها مثل عدد من المؤسسات الأخرى - كالرئاسة أيضا- ظلّت تعاني من ثقل النسق الاجتماعي التقليدي الذي بقي عامل عطالة حال دون اقتناعها وقبولها بمبدأ سيرورة الانفصال والندّية لمجتمع يطالب أفراده بأن يعاملوا كمواطنين راشدين. والحقيقة أن هذه الحالة تجد لها تفسيرا موضوعيا يمكن أن نستشفه من خلال تطوّرها التاريخي وتركيبتها البشرية و جذورها الاجتماعية، وبحكم هيمنة هذا النسق واستفحاله في دواليب تنظيمها وهيكلتها.
لقد أدى بالفعل ثقل النسق الاجتماعي التقليدي والبرمجة الثقافية للمجتمع بأن تمتزج قيادتها عبر كل مراحل تطوّر الدولة الوطنية بصورة الأم المغذية، مثلها مثل الأم في العائلة الجزائرية التي تستمد سلطتها من وظيفة الرعاية والعناية (بقرة ليتامى في المخيال الاجتماعي) التي تمنحها لأفرادها. فسلطة الأم في المجتمع الجزائري غالبا ما تحدّدها عناصر رمزية يمكن أن نستشفها عبر مختلف جوانب الحياة الاجتماعية وفضاءاتها (قرار المصاهرة والزواج، القرارات المرتبطة بإدارة شؤون الأسرة والبيت، تحديد توجّهات تربية الأبناء ومعالم روابط علاقات القرابة وبخاصة الخال والخالة...).
وبالمثل يظهر لي أنّ المؤسسة العسكرية تحدد علاقاتها بالمجتمع وأفراده كما تتحدّد صورة الأم المغذية بقوة علاقات هذه الاخيرة بأبنائها وسلطتها الكلية عليهم؛ بحيث يظهر أن الجزائري في إطار هذه العلاقة داخل المجتمع هو إنسان بغيره وبالتحديد إنسان بأمه لا بذاته. وعلى مستوى تصور موقعه في مفهوم الدولة هو طفل قاصر لا يمكن له أن يفكر في الإنفصال عن صورة الأم المغذية والسلطة التي تحملها رمزيا المؤسسة العسكرية؛ كما بالطريقة ذاتها تتركب أيضا علاقاته بالمؤسسات السيادية للدولة (الرئاسة، الحكومة... الخ).
وعليه، يظهر أن كل نقص أو عجز في تشكل انساق سلطة مؤسساتية حديثة، نجده يساهم بشكل ملحوظ في انبعاث أنماط هيمنة وتسلط أحادية، ترفض للآخر صفة الندية. كما يظهر أنّ اللاّتماثل واللاّتناظر في علاقات السلطة بين الأم وأبنائها في المجتمع، يفسّر الى حدّ كبير اللاّتماثل في علاقات المؤسسة العسكرية بالمجتمع وأفراده، وبروز آثارها السلبية في أنماط الأبوية والحق الطبيعي للجزائريات والجزائريين في الوجود السياسي والاعتراف المواطني، وتقرير مصائرهم بعيدا عن كل أشكال الهيمنة والتسلط والوصاية.
شوهد المقال 424 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك