وليد عبد الحي - جيولوجيا الأزمة المصرية
بواسطة 2015-05-10 16:40:33

أ.ذ. وليد عبد الحي
يمثل منهج تحليل خصائص الطابع القومي لمجتمع معين مدخلا لتفكيك العلاقة الملتبسة بين مظاهر السلوك السياسي المعاصر من ناحية وسطوة التاريخ من ناحية أخرى، فالأزمة السياسية الطاحنة في مصر هي نتيجة لعدد من الملامح التي يعلو بعضها بعضا على غرار البنية الجيولوجية .
ومن أبرز ظواهر البنية الاجتماعية المصرية هي " الشخصية الفرعونية"،إذ أن كل ظاهرة اجتماعية لا بد من تعيين فرعون لها ولا بد من هيراركية للسلطة حتى في الوجدان الشعبي،وهي ظاهرة لا توجد إلا في المجتمع المصري كدليل على عمق ظاهرة "السلطة"..فمثلا للموسيقى فرعونها(محمد عبد الوهاب أطلقوا عليه اسم موسيقار الشرق)،و للغناء جعلوا من أم كلثوم(كوكب الشرق)،وطه حسين(عميد الأدب العربي)،وأحمد شوقي (أمير الشعراء)،ويوسف وهبي(عميد المسرح العربي)،وأحمد لطفي السيد(أستاذ الجيل)،وعبد الناصر (زعيم الأمة العربية)،ومصر (أم الدنيا) وعبد الباسط عبد الصمد(شيخ القراء)،وفاتن حمامة (سيدة الشاشة العربية)...الخ،أي وكأن كل ظاهرة اجتماعية لا بد لها من فرعون...الا يدل ذلك على "عمق الفرعونية" في العقل الجمعي...
ثم ما معنى "الكاتب الكبير، والفنان القدير،وانتشار ألقاب "بيه وافندم وباشا ..والكبير والمَعلِم،...الخ.،بل إن المجتمع المصري كان يشتري الألقاب من الملك، إن عمق ظاهرة الطغيان(الفرعونية) تمتد لحوالي سبعة آلاف سنة..والوهم الذي يقع فيه السيسي ووقع فيه مرسي أنهما تصورا قدرتهما على إلغاء"سطوة التاريخ" بين عشية وضحاها...
بداية من المستحسن العودة إلى شخصية فكك ملامحها المركزية قادة تاريخيون(لعل أبرزهم عمرو بن العاص في عبارته التي يزعم البعض أنه قالها : ( نيلها خشب ورجالها عجب ونساؤها لعب ،يجمعهم دف وتفرقهم عصا وهم طوع لمن غلب)،وباحثون كثر بدءا بالكاتب الأنجليزي إدوارد لين(1828) والباحث كينج ليك (الاسطورة) والذي توهم أن المظاهرات في فترة اسماعيل باشا تشير إلى ان "الشخصية المقهورة الخانعة" في الطابع القومي المصري قد انتهت،وفي دراسة اللورد كرومر(1908) انتهاء بدراسات أحمد عكاشة والأدباء ابراهيم اصلان ...الخ
تقوم هذه الشخصية(بعيدا عن لياقات لا جدوى منها في التحليل العلمي) على ثلاثة ابعاد مركزية هي :
أ- النفاق الذي يتمثل في ان المصري يقول ما لا يعتقد ويفعل خلافا لما يقول( وهذه وجهة نظر الأديب المصري ابراهيم اصلان التي سبقه لها بعض الباحثين الروس)
ب- الميل للاداء المسرحي بالرغبة في جذب الانتباه وإشباع الذاتية لدرجة مفرطة( رأي الدكتور أحمد عكاشة استاذ الطب النفس)
ت- الضمير العميق،فالعقل الباطن للمصري يطوي شخصية سلمية وجدانها في السماء(فجيمس بريستيد يرى أن المصريين هم من أوجدوا ثقافة الضمير لأنهم أول من عرف الله)،وقد تمازجت هذه الصفة بالصفات الأخرى لتجعل منها شخصية تميل أحيانا "لخرفنة العلم والدين معا" (فالراقصة المصرية تحمل في حقيبتها القرآن،بل وتكرر الحج والعمرة
والنخبة السياسية المصرية ليست بعيدة في جوهر صفاتها عن هذه الصفات،ولعل القهر والفشل المتتالي في الحروب والتنمية والعلم،خلق ثنائية الإحساس بزهو إرث تاريخي حضاري من ناحية وإحساس بدونية حادة نتيجة الفشل المطلق المعاصر من ناحية أخرى.
فإذا توارت هذه الشخصية المركبة في ثنايا "تحايلات الفعل السياسي" اضحى التعقيد أكثر وعورة،وبات التنبؤ مرهون بتحديد تخوم الشخصية التاريخية وقد تفاعلت مع فقر مدقع يعاني منه حوالي 14 مليون مصري(أي لا يتحقق لديهم الأمن الغذائي)،بينما هناك 20 مليون فقير،منهم 3،5 مليون في القاهرة وحدها.
وتمور نيران هذه الأزمة في وعاء بيروقراطي يضم 6،5 مليون موظف يعيل كل منهم حوالي 5،2 فرد،مما يثقل كاهل دولة فقيرة أصلا ينخرها فساد جعل مصر تتراجع للمرتبة 118 عالميا، وقد طالت قضايا الفساد في عام 2012 أي بعد "الربيع العربي" 612 ألف موظف أحيل منهم 22 ألف موظف للنيابة العامة والإدارية كان منهم 682 من كبار الموظفين .
وتوفر هذه الظروف بيئة للمخدرات التي بلغت نسبة الإقبال عليها طبقا لتقرير الدكتور تامر العمروسي مدير إدارة علاج الإدمان 33% من المجتمع ،وأن هناك حوالي 450 ألف إمرأة مدمنة على المخدرات،وقد عالجت المحاكم المصرية في عام واحد (بعد الربيع العربي) 33 ألف قضية مخدرات.
وتزداد الصورة قتامة إذا علمنا أن ظاهرة التفكك الأسري تتضح في أن المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية المصري يقول في دراسة اشرفت عليها الدكتورة عزة كريم أن نسبة الطلاق في المجتمع المصري بلغت حوالي 45%، وهو ما يعني أن نصف الأسر تقريبا هي أسر مهشمة، وهو ما يفتح المجال للتحلل الأخلاقي ، إذ تقع مصر ضمن المجموعة الثانية عالميا في تجارة البغاء طبقا للتقرير الأمريكي الصادر عن وزارة الخارجية الأمريكية تحت عنوان (Trafficking in Persons Report) عام 2011، وهو ما يفسر وجود 10 ملايين عانس،والهروب للزواج الخارجي والذي يظهر في وجود 14 ألف حالة زواج مع إسرائيليات.
إن بيئة أجتماعية كهذه تغيب في الغالب عن التحليلات السياسية التي لا ترى في الظاهرة السياسية إلا كرسي السلطة،مع أن كل ما سبق ينتهي في إناء الفعل السياسي.
وبعد هذه الصورة "ما بعد القاتمة"، يصبح الانفجار المجتمعي والعنف الأهوج طبيعي ، فالتاريخ –كما يقول ماركس- يتحرك من جانبه المتعفن،وهو ما يستدعي قراءة الأزمة في هذا الإطار .
شوهد المقال 1492 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك