فضيل بومالة - هكــــذا أفكــــر ! تنمية التخلف المستدامة !

فضيل بومالة
كتبت في المقال الماضي عن "التخلف كإيديولوجيا" و خلصت أن له مرجعياته وخصائصه ومنظروه وأنساقه وآلياته وحتى أنظمة دفاعه ومناعته· ولما كتبت ذلك، كنت أعي أن المقاربة مختلفة ونسقية ويمكنها أن تؤسس لتفكير جديد لا يبحث فقط عن جذور وعلّيات ومظاهر التخلف، إنما يجعل منه هو ذاته حقلا للدراسة لا كتراكمات وتمظهرات وسلوكات وردود أفعال، ولكن كبنى نفسية وذهنية وأفكار وقيم تحولت إلى منظومات مؤسساتية أصبحت تفرض لغتها وقوانينها و''منطقها''· وينسحب ذلك على جميع مجالات الحياة من الأسرة وقيمها إلى التربية ومناهجها، فالاقتصاد وإدارة الحكم··· الخ· وعلاوة على أن ''التخلف'' أصبح ''معرفة'' و''قيما'' و''مؤسسات'' و''نظاما'' قائما مهيكلا، فقد اصطبغ، وهو الأخطر، بألوان التمدن والحداثة وخصائص الأمم المتحضرة·
وكما أن للحضارة حراكها وديناميكيتها وطرائق تفاعلها وتجددها ووسائل إبداعها، فللتخلف أيضا الفلسفة ذاتها، لكن بروح مغايرة ونتائج عكسية تدمر الإنسان كل الإنسان في معتقده وروحه وتفكيره وسلوكه ونمط معيشته ورؤيته أو تمثله للحياة والكون· فإذا كانت للنماء والحضارة عبقرية ما، فإن للتخلف بهذا المعنى ''عبقريته وفنون أدائه''!
إن دراسة التخلف على المستوى الكلي بأدوات تفكيك التراكيب والأنساق، تنعكس آليا وبصورة واضحة على المستوى الجزئي، غير أن المقاربة التي اعتمدها لا تحتمل الذرية والتجزيئية·· بمعنى أن السلطة السياسية على استبدادها وفسادها لا تكفي أبدا لتفسير ظاهرة التخلف·· فالشعوب والجماعات والنخب لها وزنها ودورها في التحرر والثورة على التخلف أو التكيف معه والإبقاء عليه وتكريسه·
إن النسق العام لمجتمعاتنا، وبعيدا عن الاستثناءات الفردية، هو الصانع الأول والحامي الأكبر للتخلف·· وأعمق من ذلك، أنه بدونه لا يستطيع العيش والتعايش والاستمرار، وبمعنى أدق إن التخلف بدلالاته الواسعة وميكانيزماته المتجددة هو القاسم المشترك الأكبر ونقطة الإجماع الحقيقية والفضاء الخصب الذي تولد وتترعرع وتكبر فيه مجتمعاتنا· فتفكيرنا وطاقاتنا وحتى أحلامنا أصبحت مقيدة ومرهونة بمرجعيات التخلف·· تنطلق منه وتعود إليه وتكرسه بل وغالبا ما تدافع عنه·· فالتدين يعشش فيه والسياسة تغترف منه والتربية تعيد إنتاجه والاقتصاد يخطط له والمجتمع يستلذ باستهلاكه، كل حسب ظرفه ولحظته! إن التخلف فينا غير متناه في التعقيد وماهيته سابقة على وجودنا كشعوب حتى وإن مررنا بومضات مشرقة على قلتها في تاريخنا·
في الستينيات من القرن العشرين، تفطن عدد من الباحثين المجتهدين في شؤون ''العالم الثالث أو الرابع'' بأمريكا اللاتينية تحديدا، إلى فكرة أن التنمية لا يعنى بها دائما الاتجاه الذي تسلكه·· فالتنمية إيجابية في معناها، تغييرية في هدفها·· غير أنها يمكن أن تتخذ من ''الصفر المطلق'' و"المعادلة الصفرية" طريقا لها فتصبح تنمية للتخلف من حيث الاستثمار والأفكار وأنظمة الحكم والاجتماع· وهذا بالضبط ما جعلني، ولست بالكاد من حجم أولئك العلماء والمفكرين، انكب واعتكف على دراسة التركيبة النفسية والذهنية للمتخلف·· لأن المعادلة بتصوري أعقد من خطب السياسيين وحسابات الاقتصاديين·
فبالنسبة لإيديويولجيات ''التنمية'' في الماضي، نتحدث اليوم عن العالم المفتوح والتنمية المستدامة وتوراث القرن الواحد والعشرين في المعرفة والتقنية·
إجابتنا عن أسئلة هذا المثلث تغنينا عن أي خطاب وأي شعوذة فكرية أو دينية أو سياسية، وتكشف لنا عن حقيقتنا كما المرآة العاكسة دون تجميل أو تدجيل·
فأين الإنسان فينا تربية وتكوينا ووعيا وصحة جسمية ونفسية وعقلية؟ وأين ''إنساننا'' من محيطه المباشر والمفتوح وبيئته الجغرافية؟ وأين هو من مستويات الإنتاج والاختراع وثقافة الاستهلاك؟! وما هي قدراته على التحدي والمنافسة في زمن تكالب المجتمع برمته على التنافس إما على الريع والفساد وإما على الماضي وشرعياته؟؟! لست بحاجة إلى تحويل هذا ''الإنسان'' إلى كم إحصائي ورسومات بيانية، ما أحتاجه هو عقول أخرى بهدف تفكير جماعي جاد حول مصيرنا ومكانتنا في العالم·
شوهد المقال 1385 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك