يبدو أنه من السهل تفسير وفهم أسباب انهيار الحضارات وانحطاط الإمبراطوريات وتفكك الأمم والدول، بيد أنه من الصعب رسم خطط واستراتيجيات ناجعة لقيامها وإقلاعها وتحولها إلى قوى عظمى فاعلة في التاريخ والعالم. والأمر هنا بنظري ينطبق على الاجتماع البشري كله·· وثنيات وعقائد توحيدية·· علمانية وفلسفات مختلفة. هكذا نفهم الصين وفارس واليونان وروما وحضارة الإسلام والغرب اليوم·
وإذا كانت لحظة الميلاد والإقلاع هي النقطة الحاسمة في مسار هاته الأمة أو تلك، فإننا تخصيصا لا نركز إلا على عصرنا الذهبي أو لحظة الأفول· وهنا تحديدا تولدت عندنا عقدتي انفصام خطيرة، عقدة الماضوية من حيث العظمة وفي مقابلها عقدة الفشل وعدم القدرة على الانطلاق من جديد. وعليه، فثنائية الحضارة/التخلف وما ينجر عنها من أدبيات وخطاب قد أسرت (وما زالت) ذاكرتنا ووعينا وعقلنا وسلوكنا وردود أفعالنا·
وعلاوة على ذلك تظل تلك الثنائية وكأنها الدواء الذي انتهت مدة صلاحيته،فاقد لأي فعالية في العلاج وقادر على التسبب في أمراض أخرى قاتلة. بمعنى أن الحضارة عندنا (وكم كانت عظيمة وإنسانية) وقد استمرت قرونا طويلة قد خلت، تقدم على أنها إما أصل غرب اليوم (في جل علومه أو ابداعاته أو موازية له وبديلا عنه· أما التخلف فيقدم كنتيجة واضحة وبسيطة السبب فيها هو الغرب الاستعماري ذاته أو الأنظمة الحاكمة الاستبدادية لمراحل ما بعد الاستقلال الوطني·
إن فكرة النهضة في عالمنا العربي الإسلامي أقدم من حيث الزمن والسؤال من أخواتها في الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا (ثورتي 1776 و1789) واليابان (حركة مايجي 1868)، غير أنها لم تؤت ثمارها إلا فيما قل وندر. أما تراكمات الانحطاط والتبعية والتخلف، فازدادت أحجامها وتجذرت أسبابها أكثر فأكثر· مرد ذلك لدى التيار الديني هو تعطيل الإسلام والجري وراء أفكار مستوردة تتنافى وقيمنا وروحنا الحضارية· أما التيار الوطني، فيوعز الأمر إلى الاستعمار والاحتكار وفساد السلطة·· غير أن الحركة الليبرالية ترجع الخلل إلى مبرري الدين والاستعمار معا كونهما يخفيان الحقيقة، وتركز على عوامل تحرير الإنسان والعقل والعمل السياسي والاقتصاد.
ربما تتداخل هذه العوامل جميعها وغيرها، والنقاش مطروح منذ ما يزيد عن القرنين إلا أنني، ولا أزعم البتة الحسم في الموضوع، أعتقد أننا لم نقارب التخلف إلا من خلال مظاهره وليس بوصفه ظاهرة في حد ذاتها· ودليل ذلك أننا لا نتحدث عنه إلا بالمقارنة مع الآخر المتحضر·· ومن ثم ظل السؤال مطروحا ''لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟'' وما يزيد الأمر تعقيدا ويصل به حد المأزق كوننا نعي تخلفنا بقدر ما نتصور أننا نتوفر على كل الشروط لتجاوزه وإحداث قطيعة معه· أما النتيجة فلا تحتاج إلى بيان واستدلال· لقد أصبحنا نستهلك شروط الإقلاع لنكرس التخلف وتستنفذ قوانا وطاقاتنا لتنميته!
إن ظاهرة التخلف (وهي كل لا يتجزأ) ترتبط في تصوري بالبنى الذهنية والنفسية للإنسان في عجزه تحدبدا عن الانتقال من ''الطبيعة'' إلى ''الثقافة'' أولا· . وعليه، فالثورة الحقيقية على التخلف يجب أن تدور رحاها في مجالات الانساق التي تأسست عليها عقولنا ومدركاتنا وطبائع نفوسنا وارتكاساتها· وإذا لم يحدث ذلك، فإن الاستثمار أيا كان سيكون في التخلف وليس أبدا في النمو والارتقاء·
إن ما عرفناه من شتى أنواع الصدمات والانتكاسات لم تصنع فينا للأسف الشديد لا وعيا جديدا ولا رؤية مختلفة لذاتنا والعالم، ولم تنتج لدينا عمليا منظومة قيمية ومؤسساتية بديلة غير تلك التي استوردناها جاهزة بدون فهم أو تحكم.
إن فشل الإيديولوجيات الماركسية والليبرالية والإسلاموية في بلداننا لم ينجر عنه تخلف تراكمي فحسب وإنما جعل من ظاهرة التخلف ذاتها إيديولوجيا ونظام نسقي في الحكم ونمط حياة.
إن التخلف بهذا المعنى أصبح فلسفة اجتماعية وثقافة مؤسساتية وعقلية جماعية . فالتخلف عندنا لم يعد فقط فقرا وجهلا ومرضا، إنما أصبح آليات وأجهزة وطرق للإدارة والتفكير· لقد بنى لنفسه جهازا مناعيا وسلطة أخلاقية وقوانين ردعية، والأخطر من ذلك أنه صار مغلفا بمظاهر المدنية والحداثة والحضارة المعاصرة· ففي الوقت الذي مازلنا فيه في مراحل ما قبل العقل و الدولة والسياسة والحداثة، تجدنا أصحاب مجالس برلمانية(لاتشرع) وحكومات(معتوهة لا تحكم) وجامعات(لا تفكر) و وديمقراطيات(لا شرعية لها) وإعلام (غير حر) و··· إلخ·
إن تكيفنا الطوعي أو الإجباري مع ظاهرة التخلف جعلنا أدوات وآليات لإعادة إنتاجه واستمراره في السياسة والاقتصاد والثقافة وفي كل شيء.
إن رؤوس أموالنا الرمزية والمادية الحقيقية قد عوضت بمرجعيات أخرى تنطلق من التخلف وتنتهي إليه، فالتدين في فهمنا ومعاملاتنا قتل الدين كمشحذ للإنسان والتاريخ·· والريع قتل الإنتاج والاقتصاد·· والإدارة بالفساد قتلت السياسة والرشاد في الحكم·· والأحادية قتلت الاختلاف والموالاة قتلت إرادة التغيير و الشعوذة أجهزت على العقل وهكذا·
إن التخلف البنيوي فينا هو إيديولوجيتنا الحقيقية و''لن يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم''·تغيير بالقطائع الجذرية وبناء بدائل حقيقية ترفع تحديات الراهن والقادم و تقطع نهائيا مع كل موروث ماضوي مريض وقاتل.
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك