مصطفى كيحل ـ الحراك وسيكولوجيا الحشود

د. مصطفى كيحل
ساد الانطباع في الجزائر منذ نهاية التسعينات من القرن الماضي ، أن التغيير بالشارع أو بالحشود و الجماهير غير ممكن، و أن مضاره أكثر من منافعه ، و ذلك بسبب التكلفة البشرية الباهظة التي دفعها المجتمع الجزائري جراء الاضطرابات السياسية و الأمنية بفعل ما عرف بظاهرة الإرهاب الدموي ، أو اضطرابات منطقة القبائل مع بداية الألفية الثانية ، و بسبب السياسات التي اتبعتها الحكومات المتتالية التي عرفت وفرة مالية غير مسبوقة ، من خلال شراء السلم الاجتماعي و توزيع الأموال بطريقة عشوائية على فئات من الشباب و ذلك درأ لموجات الربيع العربي .
و لكن الجماهير الجزائرية بداية من 22 فيفري 2019 عادت لتسترجع الشارع بصفة غير مسبوقة منذ الاستقلال ، حيث نزل إلى الشارع في الجمعات التالية لتاريخ 22 فيفري ، و خاصة جمعات شهر مارس و شهر أفريل و شهر ماي ، الملايين من الجزائريين ، و حدث ذلك بدون تأطير من أي حزب سياسي و من أية إيديولوجيات دينية أو سياسية معينة ، و بدون تأثير أية شخصية سياسية ، بل العكس من ذلك ظل الحراك يرفض كل محاولة لتمثيله.
صحيح أن التذمر من الواقع السياسي و الاجتماعي و الاقتصادي كان واضحا عند عموم الجزائريين ، و لكن الخروج الجماعي غير المسبوق ، يعيد طرح سؤال قديم جديد يتعلق بسيكولوجيا الجماهير ، أو سيكولوجيا الحشود psychologie des foules
و كما هو معلوم للمختصين أن علم النفس الجماعي هو جزء لا يتجزأ من علم النفس الاجتماعي ، و العلم الذي اهتم به الكثير من الباحثين في مختلف فروع العلوم الإنسانية و الاجتماعية من مثل :غوستاف لوبون في كتابه ” سيكولوجيا الجماهير ” و غابريل تارد في كتابه ” الرأي و الجمهور ” و سيغموند فرويد ” في كتبه ” علم النفس الجماعي و تحليل الأنا ” و كتاب ” مستقبل وهم ” و ” قلق في الحضارة ” و جان بودريارد في كتابه ” في ظل الأغلبيات الصامتة ” و بول أديلمان ” إنسان الجماهير ” و سيرج موسكوفتشي في كتابه ” عصر الجماهير ” .
و لعل إسهامات هؤلاء الباحثين قد تساعد في فهم ظاهرة انبثاق الجماهير و شروط صعودها القوي على مسرح الأحداث في الجزائر ، بعد أن ظلت صامتة نسبيا لأكثر من عقدين ، و سأركز في محاولة فهم الحراك الشعبي في الجزائر و صعود الجمهور على سطح الأحداث على إسهام ” غوستاف لوبون” ، كما يكون أيضا الحراك مناسبة لاختبار نموذجه التفسيري الذي صاغه في كتاب ” سيكولوجيا الحشود “.
و في هذا السياق نجد ” غوستاف لوبون” يؤكد على أن الميزة الأساسية للجمهور هو انصهار أفراده في روح واحدة و عاطفة مشتركة تقضي على التمايزات الشخصية و تخفض من مستوى الملكات العقلية ، و هو يشبه ذلك بالمركب الكيماوي الناتج عن صهر عدة عناصر مختلفة ، فهي تذوب و تفقد عناصرها الأولى نتيجة التفاعل و من أجل تركيب المركب الجديد ” كما أن الحشد الكبير يجرف الفرد و من معه مثلما يجرف السيل الحجارة المفردة التي تعترض طريقه .
فالفرد ما إن ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقا ، أو قل إنها كانت موجودة و لكنه لم يكن يجرؤ على البوح بها أو التعبير عنها بمثل هذه الصراحة و القوة .
و الحراك الشعبي في الجزائر أبان عن روح جماعية جديدة توارت عن الأنظار لعقود طويلة ، و هي استمرار لروح نوفمبر، في ثورتها على الفساد و رفضها للإهانة و رفعها لشعارات السلمية و شعارات الوحدة الوطنية ، و أملها في مستقبل واعد لكل الجزائريين ، كما أن منطلق هذه الروح الجديدة هو مطالبته باستعادة الكرامة و العيش الإنساني الحر .
كما أن الجمهور النفسي من منظور” غوستاف لوبون” يختلف عن التجمع العادي أو العفوي للبشر في فضاء عام ، لأن الجمهور النفسي يمتلك وحدة ذهنية على عكس التجمعات غير المقصودة ، و الوحدة الذهنية هي تلك اللحظة التي تتقاطع فيها آلام و آمال الأفراد ، فالشعور بالظلم و الامتعاض من الوضع القائم ، و الاستعداد المشترك للتغيير هو ما يشكل تلك الوحدة الذهنية ، و هذه الوحدة الذهنية و الشعور المشترك لدى الجزائريين بضرورة التغيير و الذهاب نحو واقع سياسي و اجتماعي و اقتصادي أفضل هو شرارة انطلاق الحراك الشعبي بسبب تراكم مفردات التمييز و الظلم و القهر و انسداد الأفق .
كما يقرر” غوستاف لوبون ” أن الفرد يتحرك بشكل واع و مقصود و أما الجمهور فيتحرك بشكل لا واع ، ذلك أن الوعي فردي تحديدا ، أما اللاوعي فهو جماعي ، و لكن عكس ذلك فان الجمهور الجزائري أبان عن وعي سياسي و وطني كبير ، و لعل عدم اقتناع جزء كبير من الجزائريين بإمكانية تحقيق الحراك لمطالبهم الشرعية هو سبب إصرارهم على الاستمرار في الخروج و التظاهر .
كما أن الحراك الجزائري كذب إلى اليوم ، فكرة أساسية عند لوبون ، و التي تنص على أن ” الجماهير ، أيا تكن ثقافتها أو عقيدتها أو مكانتها الاجتماعية ، بحاجة لأن تخضع لقيادة محرك ، و هو لا يقنعها بالمحاجات العقلانية و المنطقية ، و إنما يفرض نفسه عليها بالقوة ، كما أنه يجذبها و يسحرها بواسطة هيبته الشخصية تماما كما يفعل الطبيب الذي ينوم المريض مغناطيسيا . فالحراك في الجزائر عكس ذلك تماما ، فالجماهير ترفض كل تمثيل و كل قيادة ، لأنها فقدت الثقة في كل الشخصيات التي راهنت عليها ، فالجماهير فوق الأشخاص و لم يعد ينطلي عليها خطاب التجييش السياسي و الديني ، بمعنى أنها تجرأت على استخدام عقلها و رفضت كل أنواع الوصايات ، و هذا ما يفسر هيمنة الخطاب النقدي في الحراك و تراجع طرق التحريض و الدعاية عموما و بروز النقاش و السجال بين الأطروحات و الأطروحات المضادة .
و من بين ما كشف عنه الحراك الجماهيري في الجزائر ، حقيقة أن الجماهير ليست تراكم للأفراد المجتمعين ضد النظام العام أو ضد المؤسسات ، بمعنى آخر أن الشعب ليس ” غاشي ” و ليس أعدادا غفيرة من الرعاع و الدهماء ، كما أن الجماهير ليست غاضبة و مجنونة و مجرمة بطبيعتها ، فجمهور الحراك ليس جمهورا مهتاجا و ليس متهجما و ليس عنيفا ، بل هو جمهور منظم و سلمي في عمومه .
و هذا الواقع الجديد يؤشر على سذاجة أصحاب الخطابات الشعبوية و الديماغوجية التي كثيرا ما تعمل على خداع الشعب و الكذب عليه ، كما يؤشر أيضا على خطأ من ينظر إلى الجمهور على أنه غاشي و لم يرتق بعد إلى مصاف المواطنة ، على ما في هذا التوصيف من استخفاف و عدم الارتقاء إلى فهم عبقرية الشعب .
و مما سبق يمكن أن نستخلص أن الحراك الشعبي في الجزائر يحتاج إلى دراسات سوسيو- سيكولوجية جديدة لفهم الأسباب و الدوافع و الصيرورات التي تتحكم بهذه الثورة السلمية غير المسبوقة ، لأن التراث العلمي و النظري في تفسير سيكولوجيا الجماهير قد لا يف بالغرض في الفهم و الاستيعاب
شوهد المقال 430 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك