بادية شكاط - اعتقال الأكاديمي ناصر بن غيث.. تقليم للأقلام وطمس للأعلام

بادية شكاط
لقد بات العالم العربي اليوم ركحًا يرتح فيه الظلم، والقهر والاستبداد؛ فصار البشر قبل رب العباد يقيمون يومًا للحساب، فُيدخِلون الجحيم كل من ليس لهم قد أناب، وصارت الحرية الفكرية حقًا مسلوبًا، والجبرية واجبًا مطلوبًا.
فالجبرية في الدول العربية أضحت صنمًا آخر يُدعَن له بالعبودية، وكأن أسواق النخاسة وتجارة الرقيق تعود بكتم للأصوات وجهر بالتصفيق؛ فإذا كان الإصلاح فكرًا غير مباح فقد كرُبَت أنوار الفهم، ولم يعد من المهم اكتناز الرؤوس للعلم، وسيكون الجهل هو الفلك الذي تدور حوله العقول لتذبل ثم تزول.
فما اعتقال الدكتور ناصر بن غيث وغيره من النخب إلا مأساة تُضاف لمآسي هذه الأمة، وحكم بالموت على عقول نابغة، وجعلها مجرد جماجم فارغة لا وزن لها ولا تأثير؛ ليبقى الفساد في هذه الأمة غالبًا ومستطيرًا.
ففي كل الديانات السماوية والبروتوكولات الدولية نجد أنّ حرية التعبير حق مشروع، وإن تفاوتت مقاديرها حسب نشأتها وجذورها. أما الدين الإسلامي، وهو عقيدة هذه الأمة، فقد كانت فيه الديمقراطية كما تدعوها الدول العلمانية مكرّسة في الحكام كما في الرعية؛ إذ تعتبر الحرية بمثابة الحياة، والرق -ولأنه ضد الحرية- بمثابة الموت، يقول عز وجل: “ومن قتل مؤمنًا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة”؛ فقد ورد في بعض التفاسير لتلك الآية الكريمة أنّ “القاتل حين أخرج نفسًا مؤمنة من جملة الأحياء لزمه أن يدخل أخرى في جملة الأحرار؛ فكأنّ إطلاقها من قيد الرق هو كإحيائها، فالرقيق ملحَق بالأموات”.
إن المشروع الديمقراطي في الإسلام كما يقول المفكر مالك بن نبي في كتابه “القضايا الكبرى”: “هو مشروع تفرزه الممارسة، وترى من خلاله موقع الإنسان المسلم من المجتمع الذي يحيط به“.
ولأنّ النمادج الديمقراطية المختلفة، بين نمادج أثينا قبل 3000 سنة وتلك الغربية في أوروبا أو الشعبية في الشرق، وحتى الجديدة في الصين، بكل خلفياتها التاريخية والنفسية، لا يمكن إسقاطها على النظم العربية؛ فقد بات لزامًا البحث عن بديل يولَد من رحم الدول الإسلامية لنؤسّس مشروعنا الديمقراطي المستقل.
غير أنّ البذور الأولى لهذا المشروع قد تبدّت في عهد الرسول عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين؛ حيث إنه عليه الصلاة والسلام يضع لبنات الديمقراطية الحقيقية التي تكرّم الإنسان كانتماء بشري من دون أي نزعة فوقية، فقال عليه أفضل الصلاة والسلام في حجة الوداع: “يا أيها الناس إنّ ربكم واحد، وإنّ أباكم واحد، كلكم لآدم وآدم من تراب، إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم، ليس لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أبيض ولا لأبيض على أحمر فضل إلا التقوى“.
فهذا الحديث الشريف يبيّن منهج الإنسان في المشروع الديمقراطي الإسلامي، كما أن هذا الدين الحنيف لم يغفل في تبيين حدود الديمقراطية بين الحاكم والرعية؛ فبيّن عز وجل ذلك في قوله: “يا أيّها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر”.
فهو نص قرآني يقرّر امتيازات الحكم، إنما جعل لذلك أطرًا تتجلى في من امتلكوا ناصية الفهم والعلم لكتاب الله وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، كالخلفاء الراشدين؛ فهذا عمر بن الخطاب يوم استلامه للخلافة ومقاليد الحكم راح يبيّن للرعية حدود هذه الطاعة في خطبته، فقال قولته المشهورة: “من رأى منكم فيّ اعوجاجًا فليقومني“.
كما أنه عليه الصلاة والسلام كان يأخذ بآراء الصحابة ومشورتهم؛ فكما روي عنه -على سبيل المثال لا الحصر- أنه حين حدّد مكان غزوة بدر، قام صحابي فاقترح مكانًا بديلًا، فما كان منه عليه أفضل الصلاة والسلام إلا أن أخذ برأيه، وهو الذي لا ينطق عن الهوى؛ فتحقق فيهم قوله عز وجل: “وأمرهم شورى بينهم”.
فالمشروع الديمقراطي الذي تطمح إليه الدول العربية هو مشروع يكون فيه الحاكم الهيئة التنفيدية، والرعية أو الشعب هم الهيئة التشريعية؛ ليكون التكامل الذي تتحقق به غايات اجتماع الرأي السديد بالحكم الرشيد، وهو تصور ينبغي أن ترومه الدول الإسلامية. ولذلك؛ فمطلب هذه الأمة لأجل الرقي والتغيير هو حرية الفكر والتعبير.
يقول المفكر محمد شحرور: “أعطني وعيًا فكريًا لدى الناس بأهمية الحرية والعدالة والمساواة، والتركيز على أولوية الحرية كما أرادها الله لهم في تنزيله الحكيم، وعيًا رافضًا لأوهام الجبرية التي تحوله إلى دمية على مسرح عرائس، يقاتل في سبيل حرية الآخرين ورفع الظلم عنهم، بغض النظر عن انتمائهم الديني والعرقي والسياسي؛ ولن تبقى في ضوء هذا الوعي إشكالات تضطرك إلى البحث عن إصلاحات. وستنقلب الأطروحة التراثية السابقة إلى (حاكم يخاف من الرعية خير للرعية من حاكم تخافه)“.
موقع التقرير
شوهد المقال 1788 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك