على وقع المعارك الجارية بين داعش والحشد الشعبي، وداعش والبيشمركة ، تتكشف اللحظة السياسية عن خيارين متصارعين يتنافسان على صياغة عراق ما بعد داعش. الأول هو خيار التيار "الحشدي" ، ويمثل مجموعة القوى العسكرية والسياسية المشاركة او الداعمة لقوات الحشد الشعبي ذات الغالبية الشيعية ، والقريبة من ايران. وهذا التيار ، مدفوعاً بثقة متجددة بالنفس وفرتها نجاحاته العسكرية في وقف التمدد الداعشي ، وببناء أيديولوجي يمركز المقولات الاسلامية ويتوجس من الغرب ، أخذ يطرح مقولات حول بناء عراق مابعد - توافقي بمركزية شيعية، بينما تتبنى القوى الكردية ، وبعض القوى السنية و "الليبرالية" الخيار الثاني ، التوافقية السياسية ، وهو خيار يتقولب بشكل شبه قطعي على مفهوم االمكونات الثلاثة (الشيعية والسنية والكردية) وتدعمه اليوم الولايات المتحدة التي تنطلق في موقفها من ثلاثة افتراضات :
الاول ان الحشد الشعبي هو قوة موالية لإيران وتوسعه خارج حدود "نطاق النفوذ الشيعي" يعني توسعاً غير مرغوب به للنفوذ الايراني ، والثاني ان القوة الوحيدة القادرة على هزيمة داعش بشكل نهائي هي قوة سنية يمكنها أن تملأ الفراغ وتتحول الى قوة دفاع ذاتي امام الجماعات التكفيرية من جهة ، وأمام النفوذ الايراني من جهة اخرى . والافتراض الثالث هو ان عراق ما بعد داعش يجب ان يتأطر سياسياً بعلاقة فيدرالية بين كيانات اثنو- جغرافية ثلاثة ، وهو ما يصطلح عليه الكثير من العراقيين -تبسيطاً- بمشروع بايدن. وقد تكلل هذا التفكير بظهور مشروع الكونغرس الأخير الذي يسمح بتسليم المساعدات العسكرية للميليشيات الكردية والسنية مباشرة بدون المرور بالحكومة العراقية ، ان أخفقت الأخيرة في تنفيذ شروط تتعلق بدعم قوة عسكرية سنية والتعامل مع شكاوى "الاقليات غير الشيعية".
يواجه كلا الخيارين عقبات كبيرة ، فبينما أثبتت معركة تكريت، وقبلها معارك ديالى وجرف الصخر، ان جغرافيا وطنية عراقية بمركزية شيعية ربما تبدو قابلة للتحقق عبر قوة عسكرية عقائدية بمشروع ايديولوجي ، فان العقبات التي واجهتها تلك المعركة والتقارير التي تبعتها عن عمليات "انتقام طائفي" ، ثم الصعوبات التي أبرزتها جبهة الأنبار ، تضع حدوداً صعبة أمام الخيار الحشدي ومشروعه . بذات الوقت ، يبدو الخيار التوافقي بثوبه الجديد محاولة لمعالجة الانقسام الطائفي بمزيد من العزل بين الفضاءات الاثنو- طائفية ، بما يوحي انها خطوة باتجاه مأسسة الانقسام وتجذيره ستؤدي على الأرجح الى نهاية وجود الكيان السياسي العراقي بشكله الذي عرفناه كدولة موحدة.
التوحيدية والتعددية
ليست هذه هي المرة الاولى التي يطفو فيها الى السطح جدل عراقي بين اتجاه راديكالي توحيدي واتجاه تعددي تفاوضي، لكنها المرة الاولى التي يبدو فيها ان الجدل صار صراعاً صريحاً على الأرض سينتهي الى تحديد مصير العراق المنقسم اليوم الى ثلاثة فضاءات بثلاث سلطات ، واحدة في بغداد وثانية في أربيل وثالثة في الموصل.
يمكن القول ان بواكير هذا الجدل تجلت في المذكرة الشهيرة التي وجهها الملك فيصل الأول في العام 1933 لقادة الدولة العراقية حينذاك ، والتي طلب فيها من هؤلاء القادة نهجاً أكثر استيعابا للشيعة وأهل القبائل ، في محاولة لتوسيع شرعية دولته. ووجه فيصل بردود غير مرتاحة لطرحه الذي ، بحسب شخصيات بارزة في العهد الملكي كتوفيق السويدي وساطع الحصري ، يضع لبنات لتجزئة المجتمع على اسسس طائفية . تعيد النخبة العراقية اليوم التفكير بإرث فيصل الأول ، وقد قدمه علي علاوي في كتاب جديد له كرجل دولة من طراز متقدم . وبغض النظر عن مدى دقة التشخيص ، فان وفاة فيصل فتحت الباب تدريجياً لهيمنة الخيارات الراديكالية متمثله برؤية توحيدية غير ميالة لتقاسم السلطة او توزيعها ، لتكرس الدولة العراقية نفسها ككيان شديد المركزية بهوية واحدية ونزعة آيديولوجية تستبدل الشرعية الدستورية بشرعية ثورية ، في مجتمع تتوغل فيه النزعات الجذرية وتنفجر كلما سنحت الفرصة وحين يلتقي سخط فئاته الشابة (٥٨% من العراقيين اليوم هم تحت سن ٢٤ عاماً) مع ايديولوجيا خلاصية محاربة.
في العام ٢٠٠٣ ، كانت الحكمة السائدة ان الدولة المركزية الواحدية التي وصلت مع صدام حسين الى تخوم التوتاليتارية قد أثبتت فشلها العميق ، وان عراقا مابعد - سوفييتي هو البديل. أحد الأمريكيين الذين عملوا على صياغة الهندسة السياسية لعراق ما بعد ٢٠٠٣ ، أخبرني انه تأثر كثيراً بأفكار عالم السياسة (أريند ليجفارت) والتي تمحورت حول صياغة النظام السياسي الأمثل للمجتمعات المتعددة في مرحلة ما بعد الصراع ، وتلك الأفكار التي قدمت نهاية السبعينيات في اطار نظرية سياسية باسم تقاسم السلطة التوافقي Consociationalism (الترجمة العربية بتصرف شديد) ، وبموجبها تم افتراض ان العراق هو مجتمع منقسم على اساس اثني فقط (وتم تحييد الانقسامات الطبقية والمناطقية والفئوية) ، وان الصيغة الأمثل لنظام حكمه هي اطار لادارة العلاقات بين ممثلي مجموعاته الاثنية (مما حيد بالضرورة مفهوم تمثيل المواطنين). بالطبع ليس صحيحاً ان ذلك كان خيارا أمريكياً وحسب ، بل كان أيضاً خيارالقوى الكردية وقوى المعارضة الشيعية السابقة التي كانت بسبب هواجس الماضي تسعى لصناعة فضاءات اجتماعية محمية من المركز القوي ، عبر تأكيد الهويات الجزئية في اطار فيدرالي توافقي لتقاسم السلطة.
هذا الفهم للتعددية بوصفها اثنوية وحسب، أضعف امكانية بلورة مفاهيم اخرى لها ، كالتعددية السياسية والفكرية ، وفي حين طرح كنموذج للقطع مع الراديكالية السياسية التي مثل نظام البعث أبشع نسخها ، فانه في الحقيقة خلق عنصريات اثنية وطائفية متصارعة ، تقاسمت السلطة على طريقة المغانمة ، وصحب ذلك عملية تحويل عنيفة للمجتمع جذرت الانقسامات الطائفية ، وتكرست اليوم حدودها الدموية. سمحت نواقص هذا النظام تدريجياً بصعود النزعات الناقدة لـ "المحاصصة" على شكل خطابات واعدة بدولة قوية ، كما عبر عنها رئيس الوزراء السابق نوري المالكي ، وكما بلورها تفوق ائتلافه مع ائتلاف العراقية ، ذي النزعة "التوحيدية" أيضا ، خلال انتخابات العام ٢٠١٠. لكن هذين الائتلافين أخفقا بالتقارب مع بعضهما لأن نزعتيهما التوحيدية كانت في عمقها نزعة ميالة للسيطرة على السلطة ، تخفي في حالة ائتلاف المالكي ( دولة القانون ) مضمونا شيعيا للوطنية العراقية ، وفي حالة ائتلاف العراقية ، مضموناً سنياً. منذ ذلك التاريخ ، تفكك مشروع ائتلاف العراقية وبات شيئا من الماضي...
الحشد وتنوّعاته
يبرز الحشد والخطاب السياسي المناغم له كتجسيد صراعي لوطنية عراقية بمركزية شيعية ، وبين أطيافه نجد علامات لراديكالية جديدة تنبذ فكرة المحاصصة وتسعى لدولة موحدة بمعالم هوياتية أكثر تجانساً، لكنها بحكم ماخلفته سنين الصراع الطويلة وافرازاتها السياسية والاجتماعية ، دولة لايمكن لحدودها ان تطابق حدود العراق الحالي. وبسبب الوعي بهذه الحقيقة ، يتنازع الحشد تياران ، تيار يريده قوة حماية ذاتية شيعية لمستقبل مابعد الدولة-الوطنية ، وآخر يريده قوة تغيير مستقبلية تعيد بناء تلك الدولة بعقيدة مغايرة عن تلك التي عرفتها إبان سيطرة التيارات القومية العربية ونخبها السنية، بنظام لايقوم على تقاسم السلطة بل على مركزتها.
لكن هذه الانقسامات الايديولوجية ، تخفي انقسامات شيعية-شيعية ، وصراعاً مستقبلياً محتملاً سيواجهه الشيعة بين فكرة الدولة وبين العقيدة، تلك العقيدة التي باتت صفتها الشيعية وايديولوجيتها القريبة من عقيدة الحكم الايرانية أكثر وضوحاً. لقد تنامت قوة الجماعات المسلحة القريبة والممولة من ايران على ايقاع الصراع ، وتزايدت شعبيتها في الوسط الشيعي ، وأخذت تلتقي مع قوة سياسية ضمت المالكي والخاسرين من خروجه - الجزئي- من السلطة. في المقابل ، هنالك القوى الشيعية التي تريد أن تحافظ على استقلال ذاتي - حتى في اطار التحالف مع ايران - وتعتقد ان الابقاء على العراق الحالي وعلى قدر من التوافقية السياسية سيخدم قدرتها على المناورة في مواجهة النفوذ الصاعد للقوى المقربة من ايران. مخاوف مقتدى الصدر من "الميليشيا الوقحة" بحسب وصفه ، وتأكيد مرجعية النجف على ضرورة ان يحترم الاصدقاء "سيادتنا" ، تعبر عن طبيعة التيار الشيعي العراقوي الذي تشغله قضية الدولة أكثر مما تشغله قضية "الثورة ".
لكن في صلب هذا الائتلاف العقيدي ، يعود الى التبلور ذلك الانقسام في المجتمع الشيعي ، بين تيار يمثله تحالف العوائل الدينية التقليدية وبرجوازية المدن ، لاسيما في الحواضر الدينية المقدسة ، وتيار تمثله الطبقات الصاعدة من شيعة الجنوب الذين كان يجري الرهان كثيراً على "عروبتهم" في وقف ما يصفه خصوم ايران الاقليميون بـ "التمدد الايراني". هذا التيار الذي يقترب أكثر من تحالف المالكي - العامري ، يمثل اليوم بعض خصائص النزعة الراديكالية التي لم تعد طموحاتها قابلة للاحتواء في اطار نظام المحاصصة الذي يزداد ارتباكا مع شح الموارد ، وهو لم يغدُ عروبيا بل صار يجتمع في اطار شيعي ايديولوجي (او عراقوي بمركزية شيعية) ، بالضد من الشيعية "الاجتماعية" التي يرعاها التحالف الأول.
مادامت داعش تقف على عتبة الباب المجاور ، لن يخرج هذا الانقسام الشيعي الداخلي الى العلن بقوة ، لكنه سيظل كامناً بانتظار حسم الصراع بين الراديكالية التوحيدية والتوافقية التقسيمية.
المدى العراقية
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك