محمد العباس - غير قابلة للأنسنة : التقنية قاتلة القيم

محمد العباس
وجود ذلك الكم الهائل من مخترعات التقنية في حياتنا اليومية، لا يعني أننا في حضرة العلم. وأننا صرنا أقدر على التماس مع مكتسبات اللحظة الحضارية. فهناك مسافة ما بين العلم والتقنية. إذ يمكن للإنسان الأُمي في حقل العلم أن يتعامل مع المنتجات الاستهلاكية للتقنية، التي تشكل مظهراً من مظاهر العلم، ولكنها لا تتطابق معه، بدليل إمكانية إتقان أي شخص، حتى وإن لم يكمل تعليمه الأولي، للكيفية التي تعمل بها الهواتف الذكية ومواقع التواصل الاجتماعي، وما يتداعى عن ذلك في الشبكة العنكبوتية.
والسبب في ذلك يكمن في كون العلم هو حقل النخبة، الذين يقيمون خلف كل تلك المنتجات التقنية ويقترحونها كحلول للحظة المعيشة. بمعنى أنهم يجعلون من التقنية في موقع الوسيط ما بين العلم والحياة اليومية. وهو ما يعني أيضاً أن ما يقترحه العلماء من تقنيات قابلة للتداول اليومي لها ما لها من تأثير على منظومة القيم. سواء بشكل مباشر وملموس أو على المدى البعيد. وهو الأمر الذي يولّد حالة من الصراع المرئي والخفي ما بين التقنية والقيم.
يحدث هذا لأن التقنية قرينة التغيير، وهي فكرة تنتمي بشكل أو بآخر للمستقبل، فيما ترتبط القيم بحسّ وروح المحافظة. وما يتداعى عنها من تنويعات الأصالة والهوية. على اعتبار أن منظومة القيم هي المعادل للموروث وللقيم التربوية التي يعاد التأكيد عليها من جيل إلى آخر، ويتم توارثها بطريقة لا تخلو من التقديس. مع الحفاظ على إيقاع الزمان والمكان. في الوقت الذي تؤدي فيه التقنية فروضها في الاتجاه المضاد. أي التجنيح في الخيال وزحزحة الثوابت وابتداع زمانها ومكانها بشكل تمسح فيه الحدود والضوابط والحواجز.
الزمن تحديداً، بما هو خميرة القيم الإنسانية، كما يقال. يتعرض اليوم تحت وطأة المنتجات التقنية بمختلف أشكالها واستخداماتها، إلى زعزعة. إذ لا يوجد ذلك الزمن الخاص، بقدر ما نعيش في الزمن المعولم المضطرب المضغوط في وسائل التواصل التي تعمل بسرعات خيالية. وهو الأمر الذي يسمح بتدفق الحمولات الثقافية، التي تشكل الحاضن المعرفي والفني للقيم، بصورة لا يمكن الحدّ منها، أو تقنينها. فكل ما تحيله التقنية إلى مسموعات ومرئيات يصل بسرعة هائلة إلى الخطوط الخلفية للثقافات والمجتمعات التي تتعامل بالتقنية ولا تشترك في وعي البعد العلمي لها.
وهكذا تبدو التقنية وكأنها منذورة لتهديم قلاع منظومة القيم القديمة واستبدالها بمقترحات قيمية جديدة. وهو أمر طبيعي. فالنظم الثقافية التي ما زالت تتعامل مع الزمن بمفهومه التقليدي لن تصمد قبالة هذا الطوفان التقني. وهذا هو حال المجتمعات التي لا تجعل من الابتكار الدائم طريقة للحياة. إذ يمكن للقيم التي تعيش بمعزل عن حركة التطور الكونية أن تُباغَت بمقترحات ومنتجات تقنية تجرف معها كل ما راكمته من خبرات قيمية.
التقنية ليست بريئة من المقاصد، مهما بدت حيادية من الظاهر، فهي على درجة من التلازم مع الديمقراطية. خصوصاً أنها مدفوعة بطاقة علمية لا تأبه لأي احترازات قيمية. وعندما تكون اليوم منتج الآخر بكل غطرسته، كما نتلمسها في حياتنا اليومية، فإنها تتحول إلى شكل من أشكال الإزاحة القسرية، أو الإبدال الثقافي. وكأنها جهة عقلانية قادرة على مفاوضتنا في أدق تفاصيل حياتنا اليومية وتهديد كل ما استأنسنا به من قيم.
ولا شك أن أبرز تجليات هذا التحدي تظهر بشكل جلي في الحقلين الاقتصادي والعسكري. إذ تبلغ التقنية ذروة استهتارها بالقيم في هذين الحيزين. حيث تتحول إلى أداة هيمنة تتجاوز بكثير ما تبدو عليه كأدوات تواصل اجتماعية. فالتقنية بهذا المفهوم، المتحدّر من العلم، غير قابلة للأنسنة. ولا يوجد في قاموسها كل تلك المتوالية من عناوين العدالة والحرية والكرامة الإنسانية. ومما يزيد الأمر سوءاً وخطورة، أنها - أي التقنية - تتطور بسرعة تفوق حداثة النظم الثفافية بأضعاف. إذ لا يمكن المقارنة بين ما تنجزه من قفزات مخيفة وبين ما تحوله المنظومات القيمية بحذر وبطء.
إن من يحمل هاتفاً ذكياً، ويعيش يومه متنقلاً في مواقع التواصل الاجتماعي، وحتى من ينجز عمله من خلال الشاشات بمختلف أشكالها ووظائفها، لا يمكن النظر إليه كشخص على صلة معرفية بالعلم. فقد يكون مجرد متعلم على سبيل النجاة مما بات يُعرف بالأمية الإلكترونية. وأن هذه التقنية التي يتعامل معها بكثافة، قد توحي بكائن عصري يقف بثقة على خط الزمن. ولكن واقع الأمر قد لا يكون كذلك. فهو عرضة لاستلاب قيمي غير مرئي. وبالتأكيد هو بمعزل عن واقعه داخل واقع افتراضي. حتى الزمن الذي يعيشه ليس زمنه الخاص، إنما هو زمن مؤسس بسطوة التقنية وشروطها.
جريدة اليوم السعودية
شوهد المقال 1590 مرة
العربي فرحاتي ـ يا دكاترة الجزائر ..انزلوا إلى الحراك لتتعلموا من الشباب ..
معتقل الرأي وليد كشيدة .. الميمز ليست جريمة
كريمة ابراهيم ـ احسان الجيزاني يهدي الميدالية الذهبية العالمية الى شهداء ضحايا الارهاب الذي ضرب ساحة الطيران بالعراق
رضوان بوجمعة ـ في ذكرى وفاته الثالثة ... زهير إحدادن زهد في المكاسب و كظم غيض المتاعب!!
حمزة حداد ـ اليسار الأمريكي يقود معركة التوغل داخل السلطة الأمريكية من بوابة الحزب الديمقراطي
بوداود عمير ـ ملحمة راهبة في الصحراء ، عين الصفراء
جباب محمد نور الدين ـ اليهودي بنيامين ستورا :يسعى لإغلاق القوس في زمن لم تعد فيه أقواس
سعيد لوصيف ـ الأصل في المؤسسات تحييد غريزة الموت وبعث غريزة الحياة..
مولود مدي ـ التحديث السياسي
عبد الجليل بن سليم ـ إستدلال Joe Biden بالقديس أوغسطين
- معتقل الرأي وليد كشيدة .. الميمز ليست جريمة
- العربي فرحاتي ـ يا دكاترة الجزائر ..انزلوا إلى الحراك لتتعلموا من الشباب ..
- كريمة ابراهيم ـ احسان الجيزاني يهدي الميدالية الذهبية العالمية الى شهداء ضحايا الارهاب الذي ضرب ساحة الطيران بالعراق
- حمزة حداد ـ اليسار الأمريكي يقود معركة التوغل داخل السلطة الأمريكية من بوابة الحزب الديمقراطي
- وليد عبد الحي ـ آثام الجُنْد العرب
- حارث حسن .... داعش والقبيلة: مثال العراق
- كلنا شيعة البحرين،، حين يصبح الطغيان مذهب وعقيدة السلطان .
- رشيد زياني شريف ..... الجزائر على كف عفريت: هل نؤمن بالتغيير ومستعدون لتحمل تبعاته؟
- فوضى جهاز المخابرات، ماذا بعد رحيل رئيس الجمهورية ؟
- بشير نافع ..... السياسة والسوق في تفسير الانهيار الفادح لأسعار النفط
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك