فتيحة بوروينة ـ لروحها الطاهرة .. بمناسبة السنة الفلاحية الجديدة فَطّة.. الأمازيغية الحرّة!
بواسطة 2021-01-15 02:37:18

فتيحة بوروينة
ظلت أمي رحمها الله، وهي ابنة حي "سارفانتيس" بالعاصمة الجزائر، قبل ثمانين سنة خلت، تتحدث الأمازيغية دون علاقة انتماء مباشرة بهذه اللغة، أي أن والديها لم يكونا أمازيغيين، لكنها خالتي فضة (القبايلية)، جارتٌنا لاحقا في حي باب الوادي الشعبي، رحمها الله ، من (أرغمها) على تعلم الأمازيغية وفهمها ومن بعدها الأخذ والردّ بها، وكأنها (قبايلية) حرة جاءت لتوها من جبال جرجرة!!
لم تكن خالتي (فطّة) هكذا كان الجميع يناديها، وهي من بلاد القبائل، ومثلها زوجها عمي محمد رحمه الله، يعرفان حرفا واحدا باللغة العربية، ومثل أمي، تعلمت خالتي فطّة، مرضعتي، اللغة العربية بدورها حرفا حرفا، فصارتا تتبادلان الحديث تارة بالعربية وتارة بالأمازيغية، فلم تشعر إحداهما بالغربة وتعايشتا في كنف حب متبادل كبير، وتبادلتا فضلا عن اللغة الأسرار والأطباق التقليدية الشهية أيضا، فكان محرم عيدهما المشترك وكذلك (النّاير) أو ينّاير، ولم تقاطع والدتي يوما فرحة خالتي فطة برأس سنتها الأمازيغية، وكذلك ظلت خالتي فطّة تشاطر فرحتنا، داخل المنزل المقابل بابها، فتغدق علينا بما (تجود) به قِدْرٌ (القبايلية) الحرة مرفوقا بـ(التراز)، بقينا كذلك إلى اليوم، نتقاسم أفراحنا وأتراحنا دون أن نشعر لحظة بأننا مختلفين، أو أن لساننا المختلف عقبة أو معضلة!
كانت أمي، رحمها الله، تكتب باللغة الفرنسية وتطالع بها الروايات والمجلاّت، ولم تكن تعرف حرفا واحدا باللغة العربية تكتبه، خلافا لها، لم تسعف الظروف خالتي فطّة لتدخل المدرسة،، فلا العربية تعلمت ولا الفرنسية، لكنها ظلت رحمها الله متشبثة بلسانها الأمازيغي، رغم العربية التي دخلت بيتها، بعد تمدرس أولادها وأحفادها. ظلت الأمازيغية وطنها، فيه تشعر بالسكينة والتصالح مع النفس، وحِصنٌها أيضا، منه قاومت كل ما ظلت تعتبره ربما (وافدا) مهددا لـ(وجدانها) كأمازيغية حرة، لهذا السبب ظلت خالتي فطّة وفّية للسانها الأمازيغي فلم تخذله يوما، ومدرسة أولى لأبنائها، علّمتهم الأمازيغية قبل أن تدخل الأخيرة المدارس وتسعى السلطة اليوم لنشرها زيادة في كل ولايات الوطن!!
خالتي فطّة، نموذج حي للأمازيغيين الذين تشبتوا بلغتهم وهويتهم وثقافتهم وتقاليدهم رغم التنكر الرسمي لها، هي نموذج يبطل الحكايات الواهية التي تزعم أن وحدها الثقافات التي تحوز على تراث مادي مكتوب، من بإمكانها الحياة مطولا زمنيا، والصمود أيضا، هي تؤكد أنه لا إمتياز للثقافة المكتوبة (العالمة) على الثقافة الشعبية (الشفوية) في عملية (تجذير) الذات والتعبير عنها بأدوات خاصة تحفظ الذاكرة الجمعية من الضياع. خالتي فطّة، مارست (المقاومة) على طريقتها لتثبت بعد كل هذا العمر أن الكتابة ليست الأداة الوحيدة لحفظ الذاكرة، بقدر ما هو فعل (التخزين) في الذاكرة، ومحاولة نقل خصوصية ذلك إلى الأجيال، حقبة بعد أخرى.
يثبت التاريخ، وخالتي فطّة أيضا، كمرجعية شفهية، أن قداسة الشفهي لدى المجتمع الأمازيغي، بكل أطيافه وألسنته، تعادل قداسة المكتوب لدى المجتمعات القائمة على الثقافة المكتوبة غير المنطوقة، كالمجتمع العربي والإسلامي بعد انتقاله إلى الثقافة الطِبَاعِية (الإتصال المكتوب)، وهي القداسة التي عززت أشكال التعبير الثقافي الشفوي الشعبي لدى المجتمع الأمازيغي عبر رموز هواياتية متعددة ظلت حاضرة وما تزال في العمران والرقص والغناء والشعر و الحكاية والحياكة والوشم والنحت والأعياد والمآتم وغيرها، كانت تلك التمظهرات، وسيلة هؤلاء لإثبات وجودهم في مجتمع جزائري ظلت السلطة القائمة تنظر إليها على (مضض) على أنها تَعَدٍ على كيان ثقافي مقدس رغبت في فرضه كل هذا الزمن و لم تفلح!!
الآن، وقد خرج الأمازيغ من امتحان الزمن أقوياء، وقد اختلطوا بأقوام وشعوب كثيرة، لا في الجزائر فقط بل في جغرافيات بعيدة، وظلوا كل هذا العمر ، رغم محاولات الطمس الثقافي واللغوي، أوفياء للسانهم، شديدي الإرتباط بخصوصياتهم الثقافية، وقد اختلطوا بالفينيقيين واليونانيين والمصريين القدماء والعرب والمسلمين، يغدو التأسيس لهذا التراث الأمازيغي الشفهي الزاخر الضارب في القدم، أي الإنتقال به من مرحلة التقاليد الشفهية إلى الكتابة والتدوين، أكثر من حيوي، وكم هو جميل أن يتمسك الأمازيغ بـ(التيفيناغ) كأبجدية وحيدة لهم، بعيدا عن جدل كتابتها بالفرنسية أو العربية، فيطورونها، في الجزائر لا في باريس، في مخابر العلم لا مخابر السياسة، عندها فقط سيكون لترسيمها معنى و تدريسها جدوى، ولا شك سيتسابق الناس إلى تعلمها، عن قناعة واختيار، كلغة قائمة بذاتها، لا كلسان على هامش الحياة الثقافية!!
شوهد المقال 992 مرة
التعليقات (1 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك