مرزاق سعيدي ـ وادي الحراش.. المسجد الأعظم وأساطير السبعينيات
بواسطة 2020-03-01 02:40:37

مرزاق سعيدي
وجوه الجزائريين، عادة، ما تُشهرُ التعب على "واجهاتها" مساء في طريق العودة من العمل الى البيت، او من المدرسة، وحتى من رحلة صعلكة طوال النهار.
قد نستهلك عمرا ولن نفهم هذه "الظاهرة"، التي تشبه العبوس، بغير مبررات كافية لمسح هذه الملاحظة من عقول كثيرين لاحظوها، خصوصا على وجوه رواد الميترو، وما أكثرهم، وبالتالي لست وحدي من يرى بالأشعة المحشية ما فوق الحمراء!
على غير العادة، خرجت من المكتب أبْكر من ذي قبل بنصف ساعة، وفي نيتي، المشي والتسكع، في مكان، ضاع من خارطتي اليومية، في الذهاب والإياب، وهو مدينة الحراش، التي تستقبلك وتستدبرك بواديها العظيم، الذي ينطلق من بلدية العمارية في المدية ويصُبّ في المتوسط، وفي الطريق إليه يستبرك الوادي بحمام ألوان، ذات الطبيعة الجبلية الرائعة، روعة بساطة سكانها وهم يبحلقون في "الغريب" بابتسامات عابرة، وغمزات شبه طفولية..
اسرعت خطاي وأنا أرفل في خيال زرعهُ فيّ خليج الجزائر، الذي ذكرني من بين ما رشح من مطالعاتي، بواحدة من أكبر الثكنات، التي لم تعد موجودة اليوم، وهي ثكنة الإنكشاريين في الحراش، قرب مصب الوادي الشهير، والذي لم تقو كل الجهود حتى الآن على تطهيره وتنقية كليّا، رغم ان المتعودين على تقديم "آجال تسليم" تحدثوا في المرة الأخيرة، وليست الآخرة، عن تسليم الوادي والتعديلات الجارية عليه بمنشآتها، في صيف 2019!
مررت بين فيلات، كانت تستدر حكايا وأساطير في السبعينيات ومطلع الثمانينات، عن إسكان معارضين من الجهات الأربع من العالم، فيها، زمن "الجزائر مكة الثوار"، مع أن الحقيقة مختلفة تماما عن ما جرى ترويجه، وآمن به من يحلمون بصور تذكارية قرب مثل تلك الفيلات الجميلة، لأصحابها الجزائريين، منهم لاعبون في كرة القدم..

من هنا يظهر الجامع الأعظم، بشكل واضح، وهو يرمُق وادي الحراش بنظرة، قد تكون "نظف نفسك قبل إفتتاحي رسميا"! وفي هذا المكان تقريبا اختارت فرنسا استعراض قوتها على المقاومة الشعبية التي استقطبتها الحراش، عاما بعد احتلال فرنسا لمدينة الجزائر، اي 1831، وجرت معركة الحراش الشهيرة، بفضل علي ولد سي سعدي ، الذي نظم المقاومة في سهل متيجة وحول الحراش بداية من تلك السنة.
أركب الميترو في اتجاه الحراش، وأنا أشيّع أشعة شمس قوية في حي البدر، إلتقطتها عدسات عيني بصعوبة جراء تعب متراكم من كثرة البحلقة في جهاز الإعلام الآلي وتأثير الأشعة السينية وغيرها، في القدرة على الرؤية والتركيز.
دقائق وأجدني خارجا من محطة ميترو سكك الحديد بالحراش. أنظر يمينا ويسارا، فأرى ان كثيرا من البنايات التي تعود للعهد الكولونيالي مُحيت من المشهد العام المقابل للمحطة.

من الجسر الرئيسي المؤدي الى أعالي باش جراح وحتى الجسر العابر لوادي الحراش في الجهة الشمالية، كل شيء تقريبا تغير، وبشكل مجنون، يوحي أن سرعة تقرير التغيير بجرة قلم، لم تكن متكافئة مع بطئ تجسيد القليل مما جرى رسمه بقلم رصاص إداري يحمل ممحاة، معه دائما..
أقطع الطريق مسرعا نحو الجسر الحديدي، الذي تنتشر عليه حالات بشرية، كل واحد منها مشروع رواية مؤلمة، عن واقعنا، الذي يتجدد في البؤس والحرمان، ويأبى أن يُغيّر نفسه، ولو بالدعاء، مثلما يقول أئمة، يقرأون ما نسخوه من كتب عامرة بغريب اللغة، الذي لا يفهمه عامة الناس اليوم..
أتوقف وألتقط صورا، حقيقية ومغبرّة، عن واقع مشروع لم يتم تسليمه بعد، وأُكمل طريقي، باتجاه وسط الحراش.
في السوق المغطى يخرج ضابط شرطة، يكون قد صرف ربع شهريته على دقلة نور، وهو متأبط وحامل عددا من العراجين، في لقطة، قلّما، تهرب من عدسة مصور فوتوغرافي محترف. انعطف يمينا وفي مخيلتي: كيف هو بومعطي وسوقه، الذي ذكرني به صديق، في تعليق بفايسبوك هذا الصباح؟
الشارع الرئيسي هو هو، ولكن المحيط تغير وأغبر، تنبعث منه روائح زاكمة للأنوف، من كثرة النفايات والمرميات، والريح التي تجدد "العطور" في الأنفاس، كلما حاولت العبور مسرعا، ومحاولا طي شعور الخيبة في اكتشاف الجديد في هذا المكان، الذي يشبه مواضع أخرى في عوالم ناسوت ينهض صباحا ويعود ليلا، الى أحياء القصدير، غير البعيدة عن هذا المكان..

ومثلما حدث لي صباحا، كان موعدي مع حافلة "سوناكوم"، بالكاد، متماسكة، ومع ذلك يتبختر صاحبها على المسافرين، وكأنه "داير مزية فيهم".. يُدير المحرك، الذي تختلط فيه الزيت مع المازوت، وتنبعث منه اصوات ترسلك رأسا إلى "فايسبوك"، فتغرق فيه، مثلما غرق المتعودون على رحلات "الجهاد اليومي"، على أمل أن يجدون فيه تسلية تلهيهم طوال الطريق..
شوهد المقال 623 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك