عبد الحميد ساحل ـ القصبة مدينة الجزائر القديمة

أ.د.عبد الحميد ساحل
لقد راقني ما يتم مناقشته هذه الايام من معطيات متصلة بتاريخ احد أعرق مدننا الجزائرية، و لا شك أن ما يقدم من معلومات ذات الطابع الحضاري و التاريخي قد يحيد احيانا عن خط بعض الحقائق التي هي ليست من قبيل المجاز.
والتعصب بشكل معين قد يعمي الابصار و القلوب و يضلل العقول ، و اكثر الاشياء إيلاما لما يتم تناول مثل هذه المواضيع و نتلمس فيها بعض الاساليب التي غذاها الاستعمار الفرنسي في الجزائر لتعميق الخلاف و الاختلاف و ضرب الطينة الجزائرية و محوها من الاسهام في الخريطة الحضارية للسياق الجزائري و العربي الاسلامي و الانساني .
كثيرة هي المدن الجزائرية التي نشأت و تطورت عمرانيا ثم تلاشت اهميتها و بعضها اندثر كليا ولكن من جهة اخرى ثمة مدن كثيرة عريقة في القدم عاودت الظهور و البروز لأسباب عديدة في الغالب تكون سياسية و اقتصادية. و مدينة الجزائر هي من النوع الاخير حسب المصادر التاريخية و الجغرافية، فمرحلة عودة الظهور كمدينة تتجلى في الدور الذي قام به بلغين بن زيري في تأسيسها في القرن العاشر ميلادي (10م) بأمر من والده زيري بن مناد الصنهاجي.
و يبدو ان مدينة الجزائر كانت من اهم مدن البلاد في العصر الحمادي وازدادت تطورا وعمرانا في عهد الدولة الزيانية حسب ابن خلدون. ورغم ان ميناءها آنذاك لم يكن في اهمية و عظمة ميناء بجاية الا ان بعض المصادر تشير الى الحيوية العمرانية و الاقتصادية لمدينة الجزائر حيث يقول الجغرافي عبد الله البكري الاندلسي (القرن11م ) : ( مدينة جزائر بني مزغنى و هي مدينة جليلة قديمة البنيان فيها آثار للأول وآزاج محكمة تدل انها كانت دار مملكة لسالف الامم … ولها اسواق ومسجد جامع …و مرساها (اي ميناؤها ) مأمون، له عين عذبة يقصد اليه اصحاب السفن من افريقيا و الاندلس وغيرهما) (من كتاب المسالك و الممالك ،المجلد الثاني ص 732)
و اهم تحول آخر اثر على الاهمية السياسية و الاستراتجية لمدينة الجزائر جعلها تعرف نموا ديموغرافيا و عمرانيا حدث في بداية القرن 16 عشر عندما استنجد مشيختها و اهلها بالقوة العثمانية لمواجهة المد التوسعي الاستعماري الاسباني في الجزائر بعد انهيار الحكم المركزي للدولة الزيانية . وكثيرة هي الدراسات التي تتناول هذا الطور التاريخي الهام في تاريخ المدينة بالنسبة للبلاد الجزائرية ليس هنا مجال تناولها .ولكن الفن العمراني للمدينة تطور بحيث اصبح من الممكن ان يلاحظ هذا في بعض المعالم و المنشآت الدينية التي تعكس هذا التحول ، وقد ظهرت دراسات تتحدث عن الطابع المعماري البربري لهذه المنشآت قبل بداية الفترة العثمانية تمييزا عن فن المعمار ذي الطابع المغاربي الاسلامي .
من اهم هذه المعالم الجامع الكبير الذي بني في بداية القرن 11م وينسب بناؤه الى المرابطين في عهد يوسف بن تاشفين ولكن الشيخ المبارك الميلي في كتابه تاريخ الجزائر في القديم و الحديث يرى غير هذا فهو يقول –ونحن نميل الى ذلك (اما الجامع الاعظم فأسس ايام الحماديين و من الغلط ما يشاع من ان مؤسسه يوسف ابن تاشفين او ابنه علي فإن المرابطين لم يملكوا مدينة الجزائر ) (من الجزء الثاني )
و من الناحية التاريخية ايضا فقد قام الامير الزياني ابو تاشفين المعروف بالولع بالبناء العمراني بتوسيع الجامع الكبير و بناء منارته المعروفة الان في 1322م ,وقام بإحاطة مدينة الجزائر بسور عظيم في نفس الفترة .و من اقدم المساجد ايضا في هذه الفترة جامع سيدي رمضان الذي كان يسمى كذلك من طرف سكان مدينة الجزائر بجامع القصبة القديمة، نسبة الى القصبة التي بناها ابو تاشفين الزياني بجواره .و كان ابوه (ابو حمو موسى الاول ) ينوي قبل ذلك تحويل عاصمة الزيانيين من تلمسان الى مدينة الجزائر .ومن اقدم المساجد العريقة التي تعود لهذه الفترة (ما قبل القرن السادس عشر) جامع القشاش او الجامع القديم بتسمية اخرى الذي اشتهرت بجواره زاوية القشاش والتي اعتبرت من قبل بعض الرحالة الاوروبيين و الباحثين الفرنسيين بمثابة مدرسة عليا. و في المدينة القديمة للجزائر وجد كذلك مسجد بهذا الطابع العمراني و هو (جامع السيدة)، حيث يرى المؤرخ عبد الرحمن الجيلالي بأن اميرة حمادية هي التي قامت ببنائه .
و الملاحظ ان التعبيرات المستعملة بالنسبة للفضاء العمراني لمدينة الجزائر في الكتابات التي تناولته في سياق هذه الفترة تضيف النسبة البربرية (اي الامازيغية ) للمعالم :المدينة البربرية ،الجزائر البربرية ،القصبة البربرية ،الاسلوب البربري. مع العلم ان مبارك الميلي على سبيل المثال يسمي بعض الفصول من كتابه التاريخي المذكور آنفا :العصر البربري ،الدول البربرية الجزائرية …) و المقصود بها مثلا الدولة الحمادية، الدولة الزيانية ….
ان التطور الهائل الذي عرفته مدينة الجزائر في القرون التالية (بداية القرن 15م حتى 1830م) اعطى خصوصية عمرانية جعلت ويليام شالر(william shaler) قنصل امريكا بالجزائر (1816-1824) يكتب في مذكراته : (و انت تقترب من مدينة الجزائر تشاهد واحدا من اجمل ما يرى على شواطئ البحر الابيض المتوسط ).ثم اضاف:( ان الجزائريين يتمتعون بمهارة كبيرة في البناء و يمكن القول بحق بأنهم بلغوا درجة من الكمال من الناحية العملية ) ونحن نقول ايضا بأن التأثر العمراني الحضاري بالعناصر الفنية الاندلسية طعم و عزز الخصوصية هذه و من احسن الدراسات الحديثة العلمية العمرانية دراسة
André Ravereau : La Casbah d’Alger et le site créa la ville
حيث يبرهن على ان مدينة الجزائر القديمة ( القصبة) من حيث الفن العمراني ليس لها مثيل و هي فريدة في نمطها حتى مقارنة بمختلف انماط مدن الغرب الاسلامي، و هي بهذا تمثل نموذج الفن العمراني الجزائري الاصيل. و صاحب هذه الدراسة كان قد قدم من قبل مقاربة علمية اخرى لمدن جزائرية بالجنوب ( غرداية) تحت عنوان :
Le M’zab, une leçon d’architecture.
شوهد المقال 368 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك