فوزي سعد الله
تقريبا كل الناس في الجزائر يعرفون "سوسطارة..حتى وان كان الكثير منهم لا يعرفون هذه الحومة الواقعة في جنوب غرب مدينة الجزائر التاريخية المسماة القصبة" بخطأٍ استعماري فرنسي متوارَث الى اليوم، ولا هم زاروها أو حتى رأوا صُوَرًا لها.
المؤكَّد أيضا ان قلة قليلة جدا تعرف معنى وأصل هذه التسمية التي تبدو غريبةً منذ أجيال واستعصى على الناس فك لغزها...فالجميع يَعرف الدّال، لكن المدلول مفقود منذ أن فقدنا حلقات كثيرة وهامة من سلسلة التواصل المعرفي بين الأجيال منذ احتلال البلاد سنة 1830م.
سور المدينة وستارته كانا يقعان خلف العمارات على اليسار على بعد نحو 70 مترا حيث تبدأ المدينة العتيقة في جهتها الجنوبية الغربية... هذه البقعة كانت بقعة تغطيها الأشجار والاشواك وتسكنها الكيور ومختلف الحيوانات...
سوسطارة لم تكن سوسطارة قبل نحو 150 عاما عندما كانت مجرد خندق إستراتيحي عند أقدام الأسوار مُعزِّزٍ لدفاعات مدينة الرّياس المجاهدين وحواليه أشجار وأشواك وسواقي في ارض شديدة الانحدار تعمّرها الطيور والحيوانات المتوحشة وبعض الاكواخ، بل كانت كما هي في الأصل وكما كان يسميها اهل المدينة مِن حَضر وبرّانية: السّور والسِّتارة.
السور والستارة، او سوسطارة، كان موقعها في العهد العثماني وبداية العهد الاستعماري خارج أقصى الطرف العلوي من السور في أعلى الصورة يسارا.
الصورة تعود الى سنة 1844م حيث نشاهد يمينا في الأسفل مدخل الباب المعروف بباب عزّون وبالقرب منه البقعة التي بتي فوقها المسرح او الأوبرا في ما يعرف حاليا بساحة بور سعيد. لكن بمرور الزمن، وعلى مدى أجيال ما بعد الاحتلال، شاع في أوساط اهل المدينة والضواحي الجهل والأمّية، وضاعت في كوارثها صفحات كثيرة من الذاكرة الجماعية. فأصبحت حاضرة سيدي الثعالبي عبد الرحمن التي اشتهرت على مدى مئات السنين بـ: "الجزائر المحروسة بالله" وبـ: "البهجة" في مختلف الكتب والتقارير والوثائق الرسمية والمؤلفات تُنادى "القصبة"، لان المحتلين اطلقوا اسم قصبتها، وهي القلعة التي اصبحت مقر الحُكم منذ سنة 1817م اي "دار السلطان"، على كامل المدينة التاريخية...
لوحة من العهد الاستعماري في القرن 19م. سوسطارة كانت في الاعلى يسارًا خارج السور حيث يمشي رجل وطفل صعودًا وعلى يسارهما مجموعة من الأشجار.
اليوم، لم يبق من هذا السور والستارة خلفه وأبراج المراقبة سوى البرج الاخير في اقصى الطرف العلوي من السور، وهو يقع في البقعة المسماة منذ فترة طويلة: الخربة.
وهكذا، في خضم هذه التحوّلات العميقة، وربّما ايضا بخطأٍ استعماري، جرى شعبيًا وتلقائيًا قلب تاء "الستارة" طاءً مثلما تتصرّف بعض الأوساط في العاصمة الجزائرية في تاء كلمات عديدة على غرار كلمة مُختار التي تُنطق لديها "مُخطار".
وهكذا أصبحت "الستارة" "السّْطارة" مع تسكين حرف السين لتيسير النطق في لغة الخطاب الشفوية اليومية.
أما النزعة الاختزالية في حديث العوام، مثلما هو شائع في كل الجماعات البشرية عبْر التاريخ، فقد تركت هي الأخرى بصمتها وأوْجَزَتْ كلمتي "السور والستارة" العربيتين الفصيحتين في كلمة واحدة وحيدة وأدمجتهما في عبارةٍ غير معهودة هي "سُوسْطارَة" التي احتفظنا بها الى اليوم بشكل غير واع فأبقينا على الفروع ونسينا الاحتفاظ بالجذور.
باب عزو والسور. وفي الاعلى سوسطارة
اذن الأصل هو السور والستارة. والسور والستارة في مدينة الجزائر التاريخية هي البقعة/الحومة التي يمر عبْرها جزء هام من سور المدينة الخارجي الجنوبي في جهته الغربية قرب الباب الجديد وخلفه السور الأساسي الداخلي الموازي له الذي يُسمى في الأوساط العمرانية الاسلامية القديمة، أو في بعضها على الأقل، السّتارة.
كذلك، نطلق عبارة الستارة على الجانب الأعلى للسور، وهو عادةً مرتفع إلى مستوى صدر الجندي الواقف خلفها. وبهذه الستارة فتحات يطل منها الحُراس لمراقبة ما يدور خارج السور ويحتمون به في الوقت ذاته من نيران الأعداء خلال المعارك والحروب.
لذلك، جاءت هذه التسمية الجديدة الغريبة الصيغة "سوسطارة"، التي ضاع معناها في الثقافة الشعبية وحتى في الأوساط الثقافية المختصة، كنتيحة لتحوير واختزال "السور والستارة".
بعد تهديم الأسوار العتيقة خلال النصف الثاني من القرن 19م أثناء الحقبة الاستعمارية وما رافقه من ردم الخندق الدفاعي العميق، زال السور وزالت الستارة التي كان يطل من خلفها الحرّاس المدججين بالسلاح على الضواحي الجنوبية للمدينة. وتوسع العمران لتستقر عشرات العمارات الأوروبية على هذه الأرض المنحدرة نحو البحر وسكنها المحتلون الى غاية سنة 1962م عندما انتزَعت الجزائر استقلالها.
هذه هي الستارة او السّْطارة...الطرف الاعلى من البرج بفتحاته للمراقبة المحمية والرماية
حينها عاد أهلها إليها وسكنوها بعدما استعادوها، لكن ذاكرة الحومة وأهلها الأجداد واسمها التاريخي وإرثها من العادات والتقاليد لم يَعودوا أبدا وضاعوا في غبار المعارك وصهيل الخيل وصخب القتال على مدى 132 سنة مع جيوش الاحتلال...

جنود يراقبون محتمين بالستارة أو السطارة
فوزي سعد الله
11 مارس/آذار 2020م
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك