فوزي سعد الله ـ عن ظهور الإذاعة في الجزائر وغنائنا الحَضَرِي...حوالي 100 عام قبل ظهور "كورونا"
بواسطة 2020-02-01 22:36:41

فوزي سعد الله
"...مهدت صناعة الأسطوانات الطريق لظهور البث الإذاعي، لأن التسجيلات الموسيقية سرعان ما ستصبح بمثابة الأوكسيجين الذي تتنفسه كل محطات البث الإذاعي عبْر العالم وإلى اليوم.
لذلك ما إن حان موعد تدشين أول محطة إذاعية في الجزائر حتى كانت التسجيلات الموسيقية الجزائرية قد تراكمت بما فيه الكفاية لتصبح مادة أولية لاستقطاب المستمعين إلى جانب البث المباشر الذي كان يقدم لهم خيرة المطربين والعازفين على أمواج الأثير.
في أستوديوهات الإذاعة، كان التراث الأندلسي بمختلف أنواعه على موعد جديد مع التاريخ لينتقل إلى مرحلة نوعية من عمره الطويل الذي ابتدأ من عمق التراب القرطبي والإشبيلي والغرناطي وتمتد جذوره إلى بغداد العباسية عندما كان أبو الحسن علي ابن نافع يتتلمذ في قصر هارون الرشيد على آل الموصلي...

من اليمين إلى اليسار: سيد أحمد سري وفضيلة الجزائرية وعْلِيلو كانوا من بين وجوه الإذاعة منذ نشأة قسم الغناء العربي
ظهرت الإذاعة لأول مرة في الجزائر في عهد الاحتلال خلال العشرينيات. وفي نهاية هذه العشرية خُصِّصتْ سُويْعات أسبوعيًا لِبثِّ الغناء العربي قبل الشروع في تقديم حفلات مباشِرة من إحياء الفنانين المختصين في الطرب الأندلسي بمدينة الجزائر. وكانوا في غالبيتهم العظمى من يهود جمعية المطربية بالإضافة إلى محيي الدين باش طارزي. وقد غنوا مَجّانًا في البداية لانعدام ميزانية خاصة بالغناء العربي.

الحاج مْحَمَّد العنقاء في تسجيل بالإذاعة
في سياق تناوله تاريخ البث الإذاعي في الجزائر، قال محيي الدين باش طارزي إن انطلاق "راديو الجزائر" في بث الغناء الأهلي العربي قد تم دون ميزانية، لذلك ظهرت الحاجة إلى فنانين متطوعين. وكان محيي الدين وحيدا، من بين المسلمين، في الاستجابة لنداء التطوع مرفوقا بجوق المطربية، وذلك طيلة أكثر من عام. ويؤكد في مذكراته أنه تعب في محاولة إقناع المغنين الآخرين بأن التحاقهم المجاني بالإذاعة لن يكون مضيعةً للوقت بل استثمارا يهدف إلى الدعاية لإنتاجهم والعمل على تسهيل رواجه على نطاق واسع.

جوق الإذاعة في عهد الاحتلال: واقفا بالشاشية الحمراء على اليمين محمد فخارجي. عازف القانون هو بوجمع فرقان
وبعد كل الجهود التي بذلها، قال باش طارزي: "نجحتُ في إقناع لاهو صِرور، والسَّاسِي، ولِيلِي العَبَّاسِي، واللَّجَّام (وهم يهود)، وبضعة فنانين آخرين. وكان الجوق الذي يرافقهم بالعزف هو في أغلب الأحيان جوق المطربية" خلال البث الإذاعي للغناء العربي من "راديو الجزائر". وتساءل باش طارزي مستغربا إحجام المسلمين عن التطوع في الوقت الذي قبل اليهود ذلك قائلا: مَنْ المستفيد من البث الإذاعي للتراث الموسيقي العربي الأندلسي "الموسيقى اليهودية؟ أبدا! بل الموسيقى العربية فقط".
بعد سنواتٍ، تطوَّر البَثُّ من حيث المدة الزمنية المخصَّصة للموسيقى العربية إلى أن جاءت سنة 1946م عندما قررتْ إدارة الاحتلال تأسيسَ أوركسترات خاصة بموسيقى الأهالي. فظهر الجوق العصري بقيادة مصطفى إسكندراني، والجوق "الشعبي" الذي أُسْنِد للحاج مْحمَّد العنقاء وجوق الموسيقى "الكلاسيكية" أو الأندلسية الذي أشرف عليه محمد الفخارجي.

الحاح مْحَمَّد العنقاء وعلى يمينه عازف القيثارة موح الصغير الأعمى وخل موح الصغير الحاج منوَّر واضعا يديه على كتفيه وعلى يمين الحاج منوَّر المغني عمرو العشاب...
وحرص المُشرِفُ على هذه المهمة، وهو الأديب وخبير الموسيقى الجزائرية البُودَالِي سفير الذي كان "رئيس مصلحة البرامج باللغتين العربية والقبائلية" (Emissions de Langues Arabe et Kabyle)، على أن تكون عناصر هذه الأوركسترات من أكثر الفنانين الجزائريين نبوغا وشعبية وخبرة بالموسيقى المحلية. وهكذا، كانت التجربة على درجة من النجاح جعلتها تتحول إلى نواة النهضة الموسيقية التي أحدثها البثُّ الإذاعي للموسيقى العربية في الجزائر والتي أصبحت القاعدة التي انطلقت منها السياسة الثقافية في مجال الموسيقى الجزائرية بعد استقلال الجزائر. بل سرعان ما أصبحت هذه التجربة اللامعة التي قادها البودالي سفير مدرسةً قائمة بذاتها كوّنتْ الفنانين وصقلت المواهب وتَخَرَّجَ منها جيلٌ جديد من الموسيقيِّين على درجةٍ عالية من الكفاءة، فضلا عن مساهمة هذه التجربة الإذاعية في عملية تسجيل التراث الموسيقي الوطني وحفظه، وفي توفير فرص الاحتكاك والتبادل بين الفنانين من مختلف جهات الوطن، وأيضا في تعريف الجزائريين بموسيقي مختلف أقاليمهم وترويجها وحفظها من النسيان والزّوال لتبقى أمانة للأجيال المقبلة.

البودالي سفير:
ولد البودالي سفير في مدينة مْعَسْكَرْ، في الحيِّ العتيق المعروف بـ: "بَابْ عْلِي"، في 13 يناير/كانون الثاني 1908م في أسرة محافظة تنتمي إلى إحدى العائلات المحلية المعروفة والمحترَمة في المنطقة وفي بيتِ عِلمٍ وثقافة من مدينة مْعَسْكَرْ في الغرب الجزائري...
في 04 يونيو/حزيران 1999م فارق الحياة في أحد مستشفيات فرنسا التي أقام بها في آخر سنوات عمره.
كان له فضل كبير في نجاح وشهرة المغني سامي المغربي في بداية مشواره.
في 04 يونيو/حزيران 1999م فارق الحياة في أحد مستشفيات فرنسا التي أقام بها في آخر سنوات عمره.
كان له فضل كبير في نجاح وشهرة المغني سامي المغربي في بداية مشواره.
انطلق جوق الموسيقى العربية الأندلسية في النشاط في أبريل/نيسان من العام 1946م وقد جمع نخبةً فناني "الصّنعة" من مغنين وعازفين قدّموا أفضل ما لديهم من مهارة موسيقية خلال الحفلات الغنائية المُباشِرة والمُسجَّلة إلى غاية استقلال الجزائر سنة 1962م. وعندما توفي الأستاذ محمد الفخارجي سنة 1956م، خَلَفه على رأس الجوق شقيقُه عبد الرزاق الفخارجي.
أصبح، إذن، جوقُ "راديو الجزائر" للموسيقي الأندلسية مرجعيةً تحددتْ وِفقها معالمُ أساليب الغناء التي سادتْ لاحقا وما زالت قائمةً إلى غاية اليوم. ولا شك أن نموذج الغناء الأندلسي الذي تبلور في محطَّة "راديو الجزائر" ليس سوى تجربة من التجارب التي سادت خلال القرن 20م، لأنه يختلف في الكثير من جمالياته وتفاصيله عن الأسلوب الذي كان سائدا من قبل وخاصة في نهاية القرن 19م وبداية القرن 20م...".
فوزي سعد الله: صفحات مجهولة من الغناء الاندلسي... دار قرطبة. الجزائر 2011م.
شوهد المقال 345 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك