سعيد عبد القادر عبيكشي ـ الأفلام الوثائقية.. متعة التحيز المرغوب

د.سعيد عبد القادر عبيكشي
يشاهد الكثير منا الأشرطة الوثائقية على اعتبار أنها جزء من منظومة تثقيفية ومعرفية، فهي تزيد من معارف الشخص وتطلعه على مجموعة متنوعة من الاختلافات والحقائق والتفاصيل. ويتم التعام معها بوثوقية مطلقة ومرجعية نهائية في تفسير تلك الظواهر والحكم عليها، لذلك لها وقع على المتابع من خلال أنها تغوص في كثير من الجزئيات والتافصيل الاجتماعية والثقافية والسياسية والتاريخية ....إلخ، مما يعطي الانطباع أن مشاهدة فيلم وثاقي قد يغني عن قراءة عشرات الكتب. هذه الفكرة قد تكون صادقة وصالحة للتداوال في نطاق ضيق ومحصور جدا، ذلك أن هذه الوثائقيات على ما تحمله من معلومات ومعطيات تكرس الثقافة الشفهية والحسية، فإنها لا يمكن أن ترقى إلى الجهد البحثي الذي يقوم به باحث مختص ومهتم في موضوع الفيلم الوثائقي أو جزئياته، بل إن الكثير من هذه الوثائقيات قدتتجاوز عن كثير من حيثيات الموضوع وتفاصيله وهذا خدمة لروح وفكرة الوثائقي.وعليه فإن الأفلام الوثائقية لا تعطي كل شيء رغم أنها تعطي الكثير، ولا ننسى أن الانشغال بكثرة وتلاحق عرض المشاهد واللقطات والانتقالات التصويرية يشوش على المتلقي وقد يذهب عنه القدرة على متابعة سيناريو وفكرة المعروض.
غير أن المؤكد والثابت في هذه الوثائقيات أنها أيضا لا تختلف عن الأفلام السينمائية في خدمتها لفكرة معينة أو رصدها لتفصيل بعينه أو حدث مميز تتابعه الإنسانية أو حتى جزء منها، وبالتالي فإن الأشرطة الوثائقية ليست محايدة ولا يمكنها أن تكون كذلك، وهو سبب وجودي فيها، فلو اعتبرنا أن هذه المادة الإعلامية تقدم بصورة محايدة وغير متحيزة وغير مهتمة بقضية بعينها، فالمخرج والسيناريست والمنتج لن يستطيعوا أن يلملموا قصة أو فكرة الوثائقي، لأن كل قضية ستؤدي بك إلى قضايا وتشابكات أعقد، ولذلك فإن توجيه المسار العام للفيلم الوثائقي هو حماية له من التشعب والزحمة المعرفية التي قد لا تؤدي دورها. وثانيا فهو منجز له روحه وفكرته ومنهجيته وتصوره العام الذي يضعه فريق العمل بداية من المنتج إلى آخر عقدة في سلسلة العمل، ما يعني أنك أمام خيارات يعرضها أصحاب الفكرة ويوجهون الاهتمام بها ونحوها، فمعالجة الأحداث التاريخية لم تكن يوما محايدة ولن تكون كذلك، فما أنجز من وثائقيات تاريخية عن ظواهر سياسية واجتماعية بعينها كانت غالبا ما ترتبط بطبيعة وتوجه المنتج والمخرج وكاتب النص، مما يعني أن الأنتاج البريطاني سيختلف تماما عن الانتاج الألماني عن الانتاج الوثاقي العربي، وهذه حالة صحية، لكن المهم في هذا الاختلاف أن يدرك المتلقي أنه أمام رغبة وإطار ترسمه مجموعة العمل، فهو لا يلغي بقية التفاصيل ولكنه يؤكد على بعضها خدمة للخيار وليس أنكارا لها.
أخيرا قد تكون هذه بعض الإشارات على أن الأفلام الوثائقية ليست متعة سريعة النفاذ والتأثير، ولا هي ترف يطرق عوالم الحيوان والربوت فقط ، بل هي حالة من الرغبة والإبداع الإعلامي المميز، الذي وجب التعالم معه بنفس المتعة في الأفلام السينمائية وبأكثر حضور ووعي وقدرة على الفهم والاستيعاب، فالفيلم الوثائقي قد يصنع الخيار المعرفي الحسي، وفي نفس الوقت يؤسس إلى خيارات وترسبات منهجية وإيديولوجية تستطيع أن توجه الفكرة والرؤية والموقف في قادم التحولات والمواضيع والرؤى.
شوهد المقال 1620 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك