فوزي سعد الله - التاريخُ صديق الحقائق وعدوُّ الخرافات والأساطير .... المفاهيم الملغمة حول وجود الموسيقى اليهودية في الجزائر
بواسطة 2017-11-22 01:50:40

فوزي سعد الله
"...لم يُعرَف لليهود في الجزائر خلال العهد العثماني، وحتى قَبْلَهُ وبَعْدَه، غناءٌ خاص بهم وموسيقى يهودية بَحْتَة مختلفة عن موسيقى غيرهم من الجزائريين بل غنُّوا وطربوا لمَّا غَنَّاهُ الجزائريون المُسلِمُون وطربوا له، لأن يهود البلاد، بشكلٍ عامّ، كانوا جزائريِّين مُسلِمي الثقافة عَرَب اللسان. ولا أحد قال بذلك إلى غاية النصف الثاني من القرن 20م بعد احتلال فلسطين من طرف الصهيونية واسْتِغْوَال الصهاينة المتحالِفين مع القوى الاستعمارية والإمبريالية الغربية . فلا يهود الجزائر في العهد العثماني ادَّعوا ذلك، ولا غيرهم قالوا به سواء أكانوا أهل البلد أم أجانب. لذا، الحديث عن "الغناء اليهودي" أو "الموسيقى اليهودية" في الجزائر العثمانية وقبلها وبعدها ليس سوى "بدعة" صهيونية حديثة، رافقها ابتكارُ مفاهيم جديدة مَغْشًوشَة تقتضيها الضرورةُ الثقافية الإسرائيلية، ولا تُعبِّر عن واقعٍ وتاريخٍ بقدر ما جاءت لأغراض سياسية وإيديولوجية مُرتبِطة بالصراع في فلسطين بين المُحتلِّين وضحايا الاحتلال وامتدادات كُلٍّ مِن الطَّرَفيْن. ومن بين هذه المفاهيم المُلغَّمة "الموسيقى اليهودية العربية" (judéo-arabe) أو "الموسيقى اليهودية الجزائرية" (judéo-algérienne) و"الغناء اليهودي الأندلسي" (judéo-andalou)، وما شابه ذلك من الحِيَل والمفاهيم الالتفافية على الحقائق التاريخية، والتي لم نَعْثُرْ لها على أثر في التاريخ البعيد والقريب لا كمفاهيم ولا كوقائع.

لهذا، نقول إن اليهودي حيثما كان عبْر التاريخ، وكَكُلِّ الأقليات البشرية في العالم، غَنَّى واسْتَمْتَعَ بما تَعَارَفَ عليه أهلُ البلد الذي يَعيش فيه من غناءٍ وموسيقى في المجاليْن الدُّنْيوي والدِّينِي، لأن موسيقى وغناء اليهود حيثما كانوا ومضمونهما والمخيال والوجدان والذَّوْق الجَمالي والآلات الموسيقية وبُنْيَة الجَوْق وأساليب الأداء الصوتي وتِقْنِيَات العَزْف والإيقاعات وحتى النِّظام الشِّعري للنصوص الغنائية كلَّها منتوجٌ ثقافي/حضاري للمجتمع الحاضِن لليهود وليس العكس. وكَغيرهم من أهل البلد، يُشارِك اليهود في تَداوُل هذا المنتوج واستهلاكه وإنتاجه ليس كيهود بل كأعضاء في هذا المجتمع وكجزءٍ من هذه التَّشكيلة الثقافية/الحضارية. وبالتالي، "هل يجوز مثلاً تصنيفَ سمفونيات الموسيقار الألماني الرومانسي فِلِيكْسْ مِنْدِلْسُونْ، والطَّقاطِيق الشرقية للموسيقار المصري داود حُسْنِي باعتبارها "موسيقى يهودية" لأن كُلاًّ من المُلحِّنيْن يهودي أو من أصل يهودي؟" ، على حد تعبير عبد الوهاب المسيري، وهل يجوزاعتبار أغاني الحَوْزِي والعْرُوبِي والزِّنْدَانِي العربية/الأندلسية التي غناها اليهود الجزائريون بن فَرَاشُو ومَقْشِيشْ ويَافِيلْ بن شْبَابْ ومُوزِينُو ولاَهوُ صِرُورْ ورِيمُونْدْ لِيرِيسْ في جزائر القرن 19م والقرن 20م "فنًّا يهوديا" لمُجرد كَوْن ديانتهم يهودية؟ وهل نَعْتَبِر غِناء جَانْ جَاكْ غُولْدْمَانْ في فرنسا "غناءً يهوديًا" فقط لأن غُولْدْمَانْ يَهوديًا؟ أو غناءَ الأمريكي اليهودي من أصل لِيتْوَانِيٍ بُوبْ دِيلاَنْ أيضا "يهوديًا"؟ لا أحد، بطبيعة الحال، يُفكِّر مجرَّد التفكير في القول بذلك إذا تَوَفَّرَ لَدَيْه الحد الأدنى من المنطق والأمانة العلمية، لأن غناء غُولْدْمَانْ فرنسيٌّ وفنّ بُوبْ دِيلاَنْ أمريكيٌ مثلما حتى أفلام تْشَارْلِي تْشَابْلِنْ ووُودِي آلنْ أمريكية وليست يهودية، ولا أحدَ يَطعَن في ذلك.

كذلك، من الناحية الدينية، يتساءل عبد الوهاب المسيري مُستغرِبًا "...هل يجوز اعتبار الموسيقى التي تُرتَّل أو تُنشَد في المعابِد اليهودية موسيقى يهودية رغم أن ألحانها قد تكون ألحانًا سْلافِيَةً ألمانيَةً أو عربيةً؟..." . ونحن نعَرِف فوق ذلك، ودون أدنى شك، وعلى سبيل المثال لا الحصر، بأنه "...قد وَضَعَ إسحاقُ لُورْيَا وإسرائيل نَادْجَارَا أشعارَهما الدينية على أنغامٍ وألحانٍ عربية وتركية وأندلسية" .
وفي الحقيقة، حتى لَحْن النشيد الوطني الإسرائيلي المعروف بـ: "هَاتِيكْفَاه"، ومعناها: الأَمَل، لا علاقة له باليهودية بل هو لَحْنٌ "اقتُبِس من الألحان الشَّعبية السّْلافِية والبولندية" ، مثلما هو شأن لَحْن إنْشاد "مَاوْزْ تْزُورْ" (Ma'oz Tzur) الذي هو "التَّرْنِيمة الخاصة بِعِيد التَّدْشِين (حَانُوكَاه) (...) أُخِذ مِن لَحنيْن شَعبيَّيْن ألمانيَّيْن من القرْن 16م، أحدُهما لَحْنٌ ديني لَوْثَرِي، والآخر لَحْنُ أغنيةٍ للحرب. وتَرْنِيمَةُ عيد الفصح "أدِيرْ هُو" مأخوذة من لحْنٍ ألماني من القرن 17م يُستَخدَم أيضا في الكنيسة المسيحية..." .
لِكُلِّ ذلك، برأي المسيري، "...الحديث عن "موسيقى يهودية" يُصبِح أمرًا مستحيلا" ، لأن "...عبارة "موسيقى يهودية"، مثلها مثل عبارات "ثقافة يهودية" و"فن يهودي" و"تاريخ يهودي"، تُحاوِل افتراضَ نوع من الوِحدة والاستمرارية، بينما لا توجد مثل هذه الوحدة والاستمرارية" بين اليهود في العالم، لا في الماضي ولا في الحاضر.
مرةً أخرى، التاريخُ يُكذِّب مثل هذه الأطروحات والمَفاهيم، لأن موسيقى اليهود كانت بابليةً في بابل، وآشورية في آشور، وكنعانية/فينيقية عندما عاشوا مع الفينيقيين والكنعانيين، وهِيلِينِيَة في ظل الحضارة الإغريقية، وقَرْطَاجِيَة في قَرْطَاجَة، ورومانِية في ظل الحضارة الرومانية، وعربية/إسلامية لمَّا عاشوا في كَنف الحضارة العربية الإسلامية...إلخ..."
يهود الجزائر، هؤلاء المجهولون. دار قرطبة. الجزائر. طبعة جديدة قريبًا.
شوهد المقال 965 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك