التجربة الشعرية في الجزائر وتاريخها قراءة مختصرة من كتاب "تاريخ الجزائر الثقافي" لـ أبو القاسم سعد الله
بواسطة 2015-09-13 23:08:43

طارق عاشوري
تاريخ الجزائر الثقافي "من الفتح الإسلامي إلى نهاية القرن التاسع الهجري" للمؤرخ الجزائري الراحل أبو القاسم سعد الله كتاب غني يحوي معارف تاريخية يجهلها كثيرون، يبحث في تاريخ الجزائر من قبيل الفتح إلى غاية نشوء الدويلات مثل الأدارسة والأغالبة والفاطميين والموحدين والرستميين وغيرهم، وما رافق تلك الدويلات من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية، وكان تركيزه على التطورات الثقافية أكثر من غيرها ، وهو كتاب طبع سنة 2015 من عالم المعرفة للنشر والتوزيع، وقد كان المؤلف قد أتم تأليفه في 26 أكتوبر 2013 يعني قبل وفاته بقليل.
يحوي الكتاب 16 فصلا أولها "تاريخ الجزائر القديمة (الأرض، السكان، السياسة)"، وخاتمتها فصل حول "الشعر والنقد"، وستكون قراءتي في هذا المقال المختصر حول الفصل الأخير الذي عرض فيه للتجربة الأدبية الشعرية في المغرب عموما وفي الجزائر خصوصا.
يقف المؤلف "مشدوها" أمام التمكن الذي أظهره سكان المغرب في اللغة العربية، ولا دليل أظهر على ذلك من أنهم أتقنوا فنونها ومنها الشعر الذي يعتبر قرضه علامة على السيطرة في اللغة، ولم ينس في هذا المقام أن يرد على بعض الأفكار التي نشرها عدد من الباحثين والتي مفادها أن سكان المغرب إنما أتقنوا فن الشعر شكليا ولم يحيطوا بأسرار العربية فيقول: "ولدينا عشرات من الشعراء الذين قال عنهم الدارسون الأجانب أنهم "بربر"، أي ليسوا من أهل اللغة العربية ولا يعرفون لها سرا حتى ولو تكلموا بها، وهم يريدون أن يجردوهم من أصلهم الحميري الكنعاني الفلسطيني، ويحرموهم من الذوق الأدبي والجمالي إذا ثبت أنهم قرضوا الشعر بالعربية ولهم فيه دواوين باحت بها المشاعر الإنسانية"(ج2/ص: 477).
ثم ينتقل المؤلف رحمه الله إلى تبيان فضل سلاطين بني حفص في تشجيع أهل الفن والأدب، فذكر منهم السلطان أبا فارس الحفصي "الذي دام عهده أربعين سنة، كان يقرب العلماء وينشط الحركة العلمية والأدبية ... وقد شجع الفنانين وحتى الراقصين والقيان والمغنيات بإسقاط الضرائب عنهم" (ج2/ص: 478)، ومنهم الأمير أبو العباس أحمد الحفصي الذي كان شاعرا مثقفا، مدحه ابن خلدون بقصائد طوال، وله ألّف تاريخه الشهير "العبر" والمقدمة، ومنهم محمد بن يحيى الحفصي والي بجاية، وأبو يحيى أبو بكر الحفصي وغيرهم..
هذه مقدمة بدأ بها الفصل الأخير من الكتاب، ثم ينتقل بنا إلى البوادر الأولى لبداية الشعر الفصيح في بلاد المغرب كلها وخاصة في الجزائر، ويطرح ملاحظة مفادها أن الحركة الأدبية والشعرية في هذه المنطقة كانت متأخرة لأسباب جمعها في هذه الفقرة : "فاتحة الشعر العربي في بلاد المغرب عموما والجزائر خصوصا متأخرة لقلة مراكز التعليم، وثقل ركام الجهل الموروث عن قرون من انعدام التراث المكتوب شمل عهد الرومان والوندال والروم وما كان يسمى بالكنيسة الإفريقية، ومنذ الفتح الإسلامي كثرت الفتن المذهبية التي تسببت في ضعف انتشار التعليم وإرساء قواعد الحضارة، باستثناء بعض المراكز كالقيروان" (ج2/ص: 480)، وهنالك سبب آخر يتداركه المؤلف فيما بعد، وهو أن الفاتحين لبلاد المغرب لم يكونوا استعماريين، أي لم يفرضوا لغتهم على لغة السكان الأصليين، بل كان همهم الأوحد هو نشر تعاليم الإسلام وإرساء قواعد العقيدة الصحيحة، وهذه النقطة التي كانت سببا في تأخر تأثير اللسان العربي في سكان المغرب كانت في الوقت ذاته سببا في إقبال أهل المغرب على هذه اللغة، ونحن نعلم أن البربر من أشد الشعوب انطواء على ثقافتها ودليل ذلك أنهم تعرضوا مرات كثيرة وعلى مدار قرون إلى الغزو من شعوب كثيرة لكنها لم تغير من ثقافتها شيئا حتى كان مجيء الإسلام، وكانت بداية تأثير اللسان العربي في المنطقة بعد استقرار الجيل الثاني من العرب في القيروان، ثم في المدن عواصم الدويلات.
بدأت الحركة الشعرية مع الشعر التعليمي، ذلك أن الإقبال على اللغة من قبل البربر كان لمعرفة تعاليم الإسلام، ولرغبتهم في التمكن في علومه المختلفة، وكان الشعر التعليمي المتمثل في المنظومات العلمية وسيلة إلى تلك العلوم؛ "ولعل بداية الشعر الفصيح كانت مع الشعر التعليمي من متون وأراجيز، وهو ما لا يحتاج إلى التسامي والخيال، وكان الهدف منه تسهيل حفظ المطالب التعليمية كمتون النحو والقراءات والفقه..." (ج2/ص: 480)، وشيئا فشيئا صارت العربية قريبة من قلوبهم، واستطاعوا أن يتحكموا فيها وفي أساليبها ليعبروا عن وجدانهم وأخيلتهم وأجادوا فيه، وبلغوا التمكن في الشعر وجمالياته مع عهد بني رستم والأغالبة .
ثم استعرض المؤلف رحمه الله مجموعة من الشعراء وذكر تراجم مختصرة لبعضهم، ونماذج من أشعارهم، والمقام لا يسع إلا بأن نختار نحن من اختيارات أبو القاسم ثلاث نماذج.
1. الشاعر بكر بن حماد التاهرتي: يعرف بأبي عبد الرحمن، وهو شاعر عالم وفقيه أيضا، عاش بين 200 و296، سمع في تاهرت ثم في القيروان من سحنون وغيره، ثم قصد المشرق، ...وله ديوان جمع فيه بعض شعره بعنوان الدر الوقاد في شعر بكر بن حماد.
من شعره قوله في رثاء مدينة تاهرت:
فراغ الهوى شغل ومحيا الهوى قتل ويوم الهوى حول وبعض الهوى كل
وجود الهوى نجل وسل الهوى عدى وقرب الهوى بعد وسبق الهوى مطل
سقى الله تيهرت المنى وسويقة بساحتها غيثا يطيب به المحل
كأن لم يكن والدار جامعة لن ولم يجتمع وصل لنا لا ولا شمل
أفلما تمادى العيش وانشقت العصا تداعت أهاضيب النوى وهي تنهل
سلام على من لم تطق يوم بيننا سلاما ولكن فارقت وبها ثكل
وما هي أمان تفيض دموعها ولكنها الأرواح تجري وتنسل
2. ابن خميس الحجري: محمد بن عمر بن محمد الحميري، من شعره:
وأنا الفقير إلى تعلة ساعة منها وتمنعني زكاة جمالها
كم ذاد عن عيني الكرى متأفف يبدي ويخفي مما خفي مطالها
بسهولها بدر الدجى متضائلا كتضاؤل الحسناء في أسمالها
3. الشاب الظريف التلمساني: محمد بن سليمان، ولد في القاهرة عام 661 وتوفي في دمشق عام 688، وكان شاعرا رقيقا لذلك لقب بالشاب الظريف، وله قصائد عديدة في أغراض شتى وله ديوان أكثره في الغزل الصوفي "مقامات العشاق"، صححه حسين بن أحمد المرصفي سنة 1858م ثم حقق الطبعة الثالثة هادي شكري سنة 1967 ثم اعتنى به زيدان يوسف في الطبعة الثالثة 1990، ومن شعره في الغزل:
لا تخف ما صنعت بك الأشواق واشرح هواك فكلنا عشاق
قد كان يخفى الحب لولا دمعك الــ جاري ولولا قلبك الخفاق
فعسى يعينك من شكوت له الهوى في حمله فالعاشقون رفاق
ومن شعره في الوصف:
وكأن سوسنها سبائك فضة وكأن نرجسها عيون تنظر
حملت سقوط الطل منه عيونه فكأنها عن جوهر تستعبر
هذا ملخص أردت من خلاله أن أعرف بهذا الكتاب الذي يعتبر فعلا تأريخا للثقافة الجزائرية خلال القرون التسعة الهجرية الأولى وهو تاريخ يجهله الكثير منا فجزى الله المؤلف عنا خيرا وأحسن مثواه.
شوهد المقال 4528 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك