مخلوف عامر - أمين الزاوي وقضية اللغة

د.مخلوف عامر
أثار د. أ مين الزاوي في عموده بجريدة" LIBERTÉ "يوم 6 أوت 2015 قضية اللغة. فأوْرد بعض الحقائق التي يعرفها الجزائريون جيداً، منها أن العامية أو اللغة الثالثة قد احتضنت المسرح والسينما وروائع الشعر الشعبي.
لا شك أنه كان للتيار اليساري دورُه الواضح في هذه الموْجة التي سعت إلى تضييق الهوَّة بيت العامية والعربية الكلاسيكية. ما يؤكد أن للنظام السياسي دورَه الكبير إنْ لم يكن الحاسم أحياناً في توجيه الرأي العام نحو هدف محدَّد. كما حدث وأنْ أرخى العنان للإسلامويين منذ أواخر السبعينيات لتحقيق التراجع عن السياسة السابقة.فكان أن جَنيْنا الثمار المرَّة في التسعينيات.
ولا يخطئ د. الزاوي حين يرى أن العربية أُلبست هالة تقديسية بحكم علاقتها بالدين وما يترتَّب عن هذا الوضْع من مُحرَّمات. لكنْ هو نفسه كتب مراراً أنها لغة امرئ القيس والحلاج وابن عربي والنفزاوي وابن خلدون وابن رشد. كما هي في عصرنا اللغة التي كتب بها حسين مروة وهشام جعيط والجابري ودرويش وأدونيس.وترجمت بها مؤلَّفات أركون والقائمة تطول. ولا أحد يمكنه أنْ يسلب هؤلاء قدرتهم على معانقة أعمق الأفكار الفلسفية.
ثمَّ إن تجربة د. الزاوي بدأت بالعربية، وكانت أول رواية له بعنوان(صهيل الجسد)، وهو عنوان مثير يحمل شحنة إبداعية قد لا يشعر بها القارئ إذا ترجم العنوان إلى الفرنسية مثلاً :(Hennissement du corps).
طبعاً، إن قارئا متحجِّراً لم يغادر شرنقة القواعد الجافَّة لن يدرك هذه الدلالة الجمالية، تماماً كما يستغرب عنوان "الحبيب السائح"(الصعود نحو الأسفل) أو عنوان د."السعيد بوطاجين"(ما حدث لي غداً).
لكن ما استوْقفني حقاً هو رأيه من أن العربية بدون الدارجة ستبقى سجينة الطقوس الدينية، إنها لكيْ تحيا، فإنها مجبرة على الغطس في حمام الدارجة فهي مُنْقذها. وبدون الدارجة، فإن العربية ستموت، ستزول من الحياة الاجتماعية واليومية. يقول:
))Sans la darija (le dialecte) la langue arabe est condamnée à vivre dans la liturgie. Pour qu’elle se libère de sa mémoire religieuse, la langue arabe est dans l’obligation de se jeter dans le bain de la darija. La darija est la boue de sauvetage pour l’arabe. Sans la darija l’arabe mourra. Disparaîtra de la vie sociale, la vie du quotidien((.
أفهم من هذا، أن هناك قطيعة بين العامية و"الفصحى" في نظره، وأنه لا يوجد أي تفاعل بينهما، وهذا غير صحيح على الإطلاق. فمنذ وجود العربية كأي لغة أخرى، يوجد هذا الصراع بين لغة النخبة أو اللغة "العالِمة" والمُهمَّشة.ولكن هذا لم يمنع أبداً من حصول التلاقح الدائم بينهما، كل تستعير من الأخرى ويستمر التفاعل على مر الزمن وخاصة في الإنتاج الأدبي. لكن اللغة التي نريدها للعلم والمعرفة لا بد لها من قواعد تضبطها، اللهمَّ إلا إذا كان لديْنا علماء ينهضون من جديد ليضعوا قواعد للدارجة، لأن الأمر يتعلَّق بالمناهج التربوية وبلغة التدريس أساساً.
ثم من قال، إن الدارجة تخلو من النّفََس الديني ومن التقديس لتكون بديلا عن عربية غارقة في طقوسها الدينية؟ فلعلِّي أجد الدارجة وما تحمله من ثقافة ، أقرب في كثير من جوانبها إلى الجهل والخرافات والعادات والتقاليد البالية. وينطبق هذا على الأمازيغية وغيرها..
وفي كتابات د. الزاوي نفسه، ما يشهد على أنه وجد العربية تطاوعه وخرق ما يبدو له من الممنوعات، بل يصرح لجريدة الحياة" السبت8 اغسطس/آب 2015 " قائلا: ((كل اللغات جميلة، وكل اللغات قادرات على قول ما نريد قوله، ما نريد كتابته، إذا ما فهمنا أسرارها وأنا أعطيت عهداً أن لا أخون قارئي، فما أكتبه بالفرنسية أكتبه بالعربية، الإشكاليات ذاتها والمحظورات نفسها أطرحها في اللغتين )). فكيف أصبحت هذه اللغة محصورة في الطقوس، عاجزة إلى هذا الحد ؟
فبالإضافة إلى أنه يدعو إلى ضرورة انغماس العربية الكلاسيكية في الدارجة- وهو أمرٌ حاصل من غير أنْ يدعو إليه- فإنه يؤكد أنها مهدَّدة بالزوال. لكنه لا يلبث أنْ -بعد بضعة أسطر-أن يقول العكس تماماً، حين يضيف أنه: ((عندنا في الجزائر لا العربية ولا الفرنسية مهدَّدة، وإنما هي الأمازيغية التي تتعرَّض إلى كل عذابات التاريخ)). فهو يقول:
))Chez nous, en Algérie, ce n’est ni l’arabe ni le français qui est menacée, c’est plutôt la langue tamazight qui subit toutes les tortures de l’histoire((.
فحتَّى إذا صدَّقنا بأنه لا بد للعربية أن تغطس في حمام العامية، فهو لا يدلُّنا على كيفية الغطس في هذا الحمام.
إن الذي أعرفه أن التجربة الأدبية في الجزائر-شعراً ونثراً-قد أسهمت إلى حد كبير في ترقية اللغة العربية، فعبَّر أدباؤنا عن مضامين لم تكنْ معهودة من قبل، ولا أشك أن د. الزاوي كان واحداً من هؤلاء. لذلك أعتقد أنها واحدة من الطرق التي تسهم في تخليص العربية من مظاهر التخلُّف.
لأننا حين نلصق بالعربية الكلاسيكية كل العيوب ونُنزِّه الدارجة إلى هذا الحد ونصف الأمازيغية بأنها اللغة المعذَّبة، فإنَّنا نخرج من الدائرة المعرفية والبيداغوجية لنغازل خطابات سياسية انتخابوية ومؤقَّته تستعمل اللغة-عربية وأمازيغية وفرنسية- ولا تخدمها، وتوهم بالاختلاف فيما بينها لكنها جميعاً تدور في فلك نظام لم يكن له يوْماً مشروع مجتمعي محدَّد المعالم. من هنا لم يتم الحسم لا في قضية اللغة ولا الدين ولا العلم. ومن هنا تأتي الثغراث التي منها تتسرَّب الخطابات الزئبقية موسومة بالضبابية أحياناً وبالتناقض أحياناً أخرى.
لقد سُرَّ " د الزاوي" كما سُررْتُ أيْضاً، أنْ تترجم روايته إلى اللغة الصينية ، ولكنني لا أدري-حقّاً- ما إذا كان الصيني يستصعب لغته ويدينها كما نفعل نحن.
ولأني لا أمانع في أن يبدع أي كاتب باللغة التي يتقنها حقّاً، ولست من أولئك المؤرخين الذين يجتهدون يائسين ليُعيدوا البربر إلى أصل يمني أو عربي من شبه الجزيرة، إلا أنني لا أرضى بأن تبقى الأمازيغية سجلاًّ تجارياً بأيدي السياسيين الفاشلين، كما هي العربية لدى بعض دعاة التعريب. وتمنَّيْت لو أنّنا لم نفرِّط في الفرنسية وجعلنا منها "غنيمة حرب".
إننا، إذا حكَّمنا العقل قليلاً، فلا بد من أنْ نعترف بأنه منذ الاستقلال ظهر جيل يعرف العربية أكثر من غيرها، وأن جريدة واحدة بالعربية قد تبيع أكثر من كل الجرائد المكتوبة بالفرنسية مجتمعة ، بصرف النظر عن مستوى التكوين الذي لا يعود إلى اللغة من حيث هي لغة.
وإنه –بحكم الفترة الاستعمارية الطويلة- تمسَّك الجزائريون بالعربية فضاقت الحدود بينها وبين "الفصحى"، فنجد الأميين لا يواجهون صعوبة في سماع الأخبار بها، ونسمع الدبلوماسيين والسياسيين الأجانب يتحدَّثونها بطلاقة، ناهيكم عن المستشرقين الذين جعلوا منها لغة البحث.
فإذا كانت بها عيوب وفيه صعوبات، فلأن النظام التربوي عندنا لم يهْتدِ بعْدُ إلى التقنيات التي تمكِّن من تطوير تدريسها. وإذا ما توصَّلنا يوماً إلى تذليل هذه العقبات بتفتُّحنا على المناهج التربوية المتقدِّمة، فإن الدارجة وغيرها من اللهجات ستبقى روافد تثريها ولا تلغيها. تغنيها بشعرها وحكاياتها وأمثالها، كما هي قاعدة التطور والتفاعل عبر التاريخ.
كل هذا لا أتصوَّره يغيب عن "د. الزاوي"، لأنه أديب ومثقف معروف، ويعي ما يجري في الواقع السياسي جيِّداً، إلى أن وعْيه هذا بما يجري في الساحة السياسية، ربما هو ما جعل مقاربته المسألة اللغوية لا تستشرف مصيراً، فقد بقيت في حدود الخطاب السياسي العام بحيث لا يمكن أن نزعم بأنه يدعو إلى إحلال العامية محل العربية ولا يقترح عليْنا قفزة أتاتوركية، وكل ما في الخلاصة، أنه وجد الأمازيغة مُعذَّبة فَعَذَّب العربية أكثر.
شوهد المقال 1392 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك