فارس شرف الدين شكري - سهيلة بورزق ..أو مغامرة الكتابة الناضجة...

لقد حاولت الكاتبة الصديقة ،سهيلة بورزق لسنين طويلة مداعبة تلك الأسئلة المُحرجة شيئا فشيئا ،وبعث بعض إجاباتها، بدءا من مُساءلة ذاتها أولا ،عبر كتاباتها المتحديّة التي سعت من خلالها إلى قطع لجام التقاليد البالية، والتي برزت بشكل مميّز كبداية عبر عمودها الشهير - موعد حبّ - سنة 1993 في جريدة "الشرق الجزائري" التي كان الدكتور ازْتيلي مديرها العام آنذاك. فكانت تمثّل صوت الشابة الجزائرية التي تحاول معرفة العالم عبر شحذ عاطفتها على تقبُّل خذلان المجتمع الجزائري الذي كانت تطحنه حربا سياسو-عقائدية- اجتماعية شرسة، وفي نفس الوقت، تقبُّل هدايا تلك الحرب: من حبّ عنيف، وصداقات متنوّعة، وممارسة فنون عديدة عدا الكتابة : المسرح، والاحتكاك من ثمّة بالوسط الفني،والانفتاح على مفاجآت ذلك الوسط الذي كان يتطلّب الكثير من الثقة في النفس، والاعتداد الروحي، والحنكة السليقية التي على المرأة العربية أن تتسلح بها في مجابهةِ وسطٍ يشكل فيه الذئاب نخبة كبيرة وجب التغافل عن ذئبيتها بعين واحدة، وترك العين الثانية مفتوحة دائما.
سوف تنتقل "مغامرة" الكتابة فيما بعد - وأنا اشدّد هنا على كلمة مغامرة، لأن كاتبتنا لمّا تعثر بعد في تلك المرحلة على صوتها المفرد – إلى نوع جديد من المظاهرة الأدبية : النصُّ السمعي ،عبر الأثير، كي تتحوّل أغلب الكتابات التي شكلت نجاحا مميزا لكاتبتنا (1993/1994) ،إلى ذلك السّحر المسائي الذي كانت تصاحب كلماته الجياشة مقاطع موسيقية عذبة،تجعل من النصّ وكاتبَه – الذي هو في نفس الوقت قارئا متفرّدا- صنو طائر "المنيرفا" الذي يخترق أحشاء أماسي العاصمة(L’oiseau Minerve ne s’envole que dans la nuit tombée/Nietzsche) ،كي يدخل بكل حبّ، قلوب الملايين من الجزائريين الذين ظلوا يُكبرون كاتبتنا حتى الساعة، ويحجزون لها مكانة مميزة في قلوبهم ربما لم تكن هي ذاتها على دراية بعظمتها...وحسبها ذلك،لأنها سوف تغادر الوطن فيما بعد، تاركة تلك القلوب مفتوحة على حبّها وعلى تمييز صوتها بين مئات الأقلام النسوية العربية التي سوف تجدُ نفسها مجبرة على التعامل معها، وعلى استبعاد كثير من الأطياف الواهمة التي استحوذت على الساحة الأدبية بفضل الإشهار الذكوري والخبث النسوي.
لم تنفتح الساحة بعدُ على الإعلام الرقمي الذي سوف يفجِّرُ الطاقات الكامنة لكاتبتنا فيما بعد بحكم تعرُّض النص إلى النقد والمتابعة والمراجعة السريعة،. ولأنني كنتُ من المعارضين الأشداء للكتابات النسوية التي تختزل العالم في صراع أبدي بين : المرأة والرّجل،وليس بين الخير والشرّ، فإنني ما فتئتُ أنتقد ذلك الاتجاه الذي تبنته كاتبتنا والذي كان يُـنمُّ عن نقص في التجربة ليس إلاّ، دون المساس بالجانب الإبداعي الكبير الذي كان يثور بين طيات حروفها، ولطالما ردّدت بداخلي : "لا يهمُّ، إنها تعيش مراهقة الحرف، والمراهق بطبعه، يبحث دوما عن التكوين النهائي لشخصية مستقلة".وهذا ما أطلقتُ عنه كلمة – مغامرة الكتابة- أعلاه. طبعا، يختلف عمر الكتابة عن العمر البشري. ومراهقة الكتابة، هي الدليل الدامغ على الثوران ضدّ السائد، وضدّ الذات، وضدّ التقوقع، وضدّ الصدأ الاجتماعي،حتى وإن كان هناك انحيازٌ بارزٌ نحو الذات(أليس هذا ما كان يشير إليه "أندريه جيد André Gide" حين كتب: أبدا عجوز،لن أصير إلا طفلا شيخاJamais un homme ;je ne serai qu’un enfant vieilli). هذه الذات التي كانت كاتبتنا تلجأ إليها فعلا في نصوصها السّابقة، والتي كانت تجابه أشدّ ما تجابهه، ليس فقط عمى القارئ الذي لم ينتبه -ربما-إلى جمال حرفها، ويعترف بمكانته وينوّله حقه المادي والمعنوي بعد سني الكتابة التي أثبتت نجاعتها وتمايزها،وإنما أيضا المناوشاتِ الاجتماعية التي تَـنتُج عن البحث عن الاستقرار الأسري نفسيا، خاصة وهي في بداية تكوين عائلة جديدة؛ وهو بحث شرعي من حقّ كل كاتب أن يسعى إليه، لأجل ضمان أمن سلالته من جهة، واستمرار إبداعه من جهة ثانية: التماهي بين الضرورة البيولوجية والخيار الإبداعي.
مرحلة العولمة، سوف تفتح الباب إذن أمام المجتمعات الشبكية. سوف يغدو مجتمع الكُتّاب العرب ربما ضمن أسرع المجتمعات التي سوف تتشكل بحكم رغبته الجامحة في البحث عن مركزية تمثيلية، والتخلّص من المركزية المحلية الاقصائية التي لم تتأقلم مع مستجدات الوضع وحركية العولمة ولا مركزية الفعل، والتي ظلّت الاتجاهات المحافظة فيه تسيطر على شرطة القرار، بدل تعدُّد الوجوه الذي صارت تطلبه سياسة الثقافة الآنية.
تنفجر طاقة العديد من الكتاب، بما في ذلك طاقة الكتاب الجزائريين، سواء أولائك الذين يعيشون في الداخل (جزائريي الداخل)،أو أولائك الذين يعيشون خارج الوطن (جزائريي الخارج)،والذين لم يخرج مخيالهم عن صور التنشئة الاجتماعية التي شبُّوا عليها. طبعا، سوف يستثنى عن هذا المجتمع بشكل كبير ربما ذووا الأصل الجزائري الذين ولدوا وترعرعوا خارج الديار، واكتسبوا صفات اجتماعية مغايرة لما هو موجودٌ بديارهم الأصلية، والذين يُحسَبون على ثقافة أوطانهم تلك.
يكتشف جزائريو الخارج ، ثقافة العولمة بشكل كبير،وبخاصة أولائك الذين انتقلوا إلى العيش في الغرب. تتكون لديهم صورةٌ مقارنةٌ شرسةٌ سريعة ،طارحة معادلات صعبة من جهة وجب حلُّها،وبدائلَ لطالما رغب بها الكثيرون من (جزائريي الداخل) دون اكتشافها على الواقع المُعيوش فعلا. تتفـتَّق أيضا سيكولجية المحافظة على الذات وسط هيلمان الثقافة الغربية، عن طريق رغبة هلوعة تارة،ومحبّبة تارة أخرى في الاندماج مع الآخر الذي أصبح يطرح واقعا في حقيقة الأمر أكثر اختلافا عن واقع المخيال الذي تشكّل عنه في أرض الوطن البعيد.
تلك هي رهانات الواقع التي لا يمكن اكتشافها بعيدا عن الميدان. ذلك هو الميدان التليد بغرائبيته ومستجداته ومخاوفه وأفراحه الخاصة جدا جدا. تلك هي كاتبتُنا تلجأ إلى سيكولوجية المحافظة عن الذات عن طريق تجريم مدرّس الحياة الأوّل ، ورجل الحياة الأول، والمسؤول عن الحياة الأولى في كل ما من شأنه أن يقف حاجزا نفسيا يمنعها عن المرور بشكل خفي أمام عين ثقافة الغرب. يتشكل نصٌّ هجومي رهيب لدى كاتبتنا عن الموروث الذي تحكّم ويتحكّم فيه الرجل العربي. طبعا، سوف تبدأ هنا مرحلة الخروج عن "مراهقة الكتابة" وسوف يبدأ الكاتب في تحمُل كل كلمة تبدر منه. سوف يشعر الغربيُّ كلما استطالت سنان سهم دقّ إسفين الرجل العربي بكلمات الكاتبة العربية،بنوع من الثقة تجاه هذا النصّ الذي يبدو مغوارا بشكل شرس تجاه ثقافة لطالما أنعتها هو ذاته بأنها ثقافة منغلقة على ذاتها.
وبحكم الخروج شيئا فشيئا عن مراهقة الكتابة، بشكل قد يبدو، داميا لمن لم يحترف صناعة الحرف الجريء، يبدأ المحارب في التخلُّص شيئا فشيئا من نزق المراهقة، وفي استثمار تلك الثقة التي اكتسبها عن الغربي،والتي ستمكِّنه من الحصول على بعض الاستقرار،وأيضا على بعض الأدوات النقدية الجديدة، كعلامة نضج أولى ستسمح للعقل بأن يقول كلمته، بدل كلمة العاطفة التي ظلت طاغية على المشهد طيلة السنوات الماضية.
هنا، تخرج كاتبتنا عن ميثولوجيا الكتابة النسوية الستينية التي أسست لها الأديبة السورية غادة السمان،والتي كانت تختزل كما ذكرتُ الحياةَ العربية في نوع من الصراع "الأبدي" بين الرجل والمرأة لا غير،والتي سار على هدي فلسفتها الكثير من الكاتبات، دون أن يستطعن التنصّل من هذه "الحتمية التاريخية" التي أثبتت فشلها منذ أكثر من عقدين من الزمن.
سوف تتوسع دائرة الصراع بين الرجل والمرأة في الوطن العربي، وتمتدُّ إلى ما يلامس الأقطاب الدوغماتية المغلقة التي تحدّث عنها أركون في ثمانينيات القرن المنصرم(الله والدين والجنس)،والتي طوّرها فيما بعد إلى المحرمات الثلاث ،وهي ما عرّفها بالـ"داءات" الثلاث: "الدين والدنيا،والدولة"؛ أي أن الصراع في الحقيقة،سوف يكتسب طابع نقد العادات والتقاليد والمعتقد،والسلطة،كي يتوسَّع إلى شكل من النضال من أجل مكانة راقية،وحقوق أوفر،ليس على المستوى الجنساني- حتى وإن شكل هذا الصراع محطّة مؤقتة وجب الفصل في ثناياها-،كما يعتقد محدودي الفهم ،بل حتى على مستوى الصراع المعرفي الشامل، الذي تتكاثف فيه كل القوى الاجتماعية التي تشكل بنية المجتمع العربي،رجالية كانت أو نسائية.
من هنا،سوف تموت تلك النعرة العراكية النزقة في كاتبتنا،وسوف تنتقل بنصها (وبخاصة النص الصحافي)إلى التخلّص من "تجريم" Incrimination الذات أولا – على اعتبار أن المرأة بتقوقعها في دور الضحية،تظلُّ رهينة مخيال المفعول فيه دوما، وتجريم الآخر المرافق ثانيا،على اعتبار أنّ رفيق الهمّ الثقافي أبدا لا يمكنه أن يخون رفيقه في كفاحه نحو البحث عن الحقيقة. هنا أيضا،سوف يتغير الصراع في ملمحه ،من صراع خرافي كان يبدو حتميا بين الرجل والمرأة في الثقافة العربية المتأخّرة وياللأسف نوعا ما ،إلى صراع حقيقي وأبدي، هو الصراع بين الخير والشرّ . سوف تنقشع غيمة الجنسانية أخيرا،والتي أشار إليها سوفوكليس منذ أزيد من ثلاثين قرن في حديثه إلى سقراط عند " المأدبة" ،وسوف تحطُّ أخلاقيات الصراع الفعلي رحالها، والتي لطالما أرّقت مهد الباحثين عن الحقيقة.
دعونا نتدافع رأسا، دعونا نختبر الذات الأخرى فينا ، دعونا نتفق على أن الثقافة في الجزائر عليها أن تنهض وتتحرك بمختلف ما تملك من ماض عريق وعلى سلطة السياسة أن تعي أن الاهتمام بديمومة الثقافة والمثقف هما من شروط تقدم الجزائر نحو العالمية، أريد أن أرى بلدي ألماسة شمال افريقيا في الرّقي الحضاري والثقافي المتواصل •
16 ديسمبر، 2009، الساعة 12:57 صباحاً
شوهد المقال 1301 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك