فوزي سعد الله - الحُلل السندسية في أخبار حاضرة قسنطينة الأندلسية

فوزي سعد الله
"...من الناحية المِعمارية/العمرانية والطُّوبوغرافية، إذا توغَّلنا في قلب المدينة العتيقة، فإن أولَ ما سيخطف الانتباه هو أن فنَّ العِمارة القسنطيني يتشابه كثيرا في بعض تفاصيله مع نظيره الإشبيلي بشكل خاص.
ويصبح هذا التماثل أقوى في تقاسيمه العامَّة، لا سيما في طوبوغرافيته الصخرية الوعرة، مع مدينة رُنْدة الأندلسية الواقعة اليوم في مقاطعة مَالَقَة، وهي ليست بعيدةً عن إشبيلية جغرافيًا وثقافيًا وتاريخيًا، بل كانت منذ عام 1065م إشبيليةً تحت حُكم ملوك دولة بني عباد بدءا بـ: عَبَّاد المعتضد الثاني مؤسس هذه الدولة من دويْلات ملوك الطوائف.
تطل مدينة قسنطينة من أعلى صخرةٍ عملاقة على فجٍّ عميق يَعبُرُهُ وادي الرِّمال، ولا تختلف عنها في ذلك مدينةُ رُنْدَة الحاضرةُ الصخرية الواقعة في مالقة الأندلسية في جنوب إسبانيا الحالية ومسقط رأس العالم الكبير عبَّاس بن فرْناس والشاعر أبي البقاء الرندي .
ومثلما يوجد وادي الرمال في قسنطينة متوسِّطًا طرفيْها الصخرييْن مُطلا على فَجِّها العميق، يَشُقُّ وادي مماثل يُسمَّى وادي شقّ التَّاج، الذي كَيَّفه الإسبان إلى لغتهم ليصبح "تَاخُو" (Tajo)، مدينةَ رُندة، المدينة القريبة من إشبيلية والتي تطل على وادها من مرتفع يُقدَّر بنحو 750 مترا .
وأتذكَّر أنني عندما عَرَضتُ صورةً بانورامية لِقسنطينة شامخةً مُطلةً من أعلى الصخرة على وادي الرمال لِصديقٍ إسباني، هو الصحفي لُوِيسْ كَارْبَايُّو (Luis Carballo) ابن مدينة رُنْدَة، وسألتُه أين تقع هذه البقعة، لم يتردد لأول وهلة في القول تلقائيا إنها مدينتُه رندة، وتفاجأ كثيرا لمّا عرف أنها قسنطينة ...
كذلك، بالقرب من مدينة رندة الإسبانية، توجد مدينة أخرى تُسمى قُنْسْطَنطِينَة (Constantina)، فهل هي مجرد صدفة...؟ مع العلم أن اسم هذه المدينة، التي كانت تُصنَع في جبالها قنابل مَدَافِع الأندلسيين لمقاومة الزحف القشتالي النصراني في القرن 15م قبل الانهيار ، مشابه بشكل كبير لاسم المدينة الجزائرية قسنطينة الذي كان يُنطَق من طرف الجزائريين إلى غاية القرن 19م على الأقل "قُسَنْطِينَة"، بضمِّ القاف، وليس بفتحها، حسب شهادة البريطاني ج. ر. موريل في كتابه Algeria (الجزائر) ، كما يحدث الآن، فضلا عن أن أحمد بن أبي عبد الله قاسم البوني صاحب "الدرة المصونة في علماء وصلحاء بونة" يَذْكُرُهَا في أرجوزته بقوله "قُسْطَنْطِينَة" ...؟
اللسان القسنطيني يتحدث هو الآخر بنفسه عن التأثير الأندلسي حيث أنه قريب جدا من اللسان الجيجلي مع بعض التباينات الناتجة عن تأثر قسنطينة أيضا باللسان البدوي وبأساليب نطق الجهات المجاورة لها . لكن تاءَها، على سبيل المثال، هو حرف التاء ذاته المنطوق على الصيغة الأندلسية في جيجل وبجاية ومدينة الجزائر ودلَّسْ وتلمسان وتِطْوَانْ وشَفْشَاوَنْ وبني يَدَّر الجْبَالَة والهَبْطْ في المغرب الأقصى، والتي يجمعها القاسم المشترَك التاريخي الذي يتمثل في احتضانها جاليات أندلسية/موريسكية قوية العدد والتأثير في تطورها خلال القرون الأخيرة .
والأمر ذاته ينطبق على النغمة التي يُنطق بها الكلام (Intonation) والتي لا تكاد تختلف إلا في بعض الجزئيات عن الصِّيَغ الأندلسية المنتشرة في المدن المغاربية سابقة الذكر، باستثناء تونس التي نعتقد أن اللهجات البدوية سيطرت فيها على المشهد اللغوي أكثر من غيرها، وفي الحواضر الأندلسية من غرناطة إلى قرطبة وإشبيلية...
هذه التأثيرات اللغوية الأندلسية وإن كانت قوية في الحواضر والأرياف التي احتضنت الأندلسيين والموريسكيين إلا أنها شملت غالبيةَ جهات الجزائر بمستويات متفاوتة.
اليوم، رغم مضي قرون على وصول أفواج الأندلسيين والموريسكيين إلى قسنطينة وامتزاجهم العميق بالسكان المحليين ومع أهل المناطق المجاورة، ما زال الأثر الأندلسي البشري في المدينة وضواحيها حاضرا من خلال العديد من العائلات المنحدرة من أصول إيبيرية، نذكر منها: بن غَبْرِيتْ أو بن غَبْرِيدْ التي يوجد لها فرع تلمساني يُكتب اسمُه بن غبريط، وقد سبق الحديث عنه، وكيموش، التي يرجح أنها قدمت إلى مدينة سيدي راشد من جيجل التي كانت محطتَها الجزائرية الأولى بعد الخروج من الأندلس، وبن قانة، ومنتوري، وبن زَقُّوطَة، وبن سرَّاج المنحدرة من مملكة غرناطة، ودار ابن السَّاسي وأولاد الحوفاني... إلخ.
ولا شك أن في أحضان مثل هذه العائلات الإيبييرية الأصل بشكل خاص، وجد غناء المالوف خير حامٍ وحافظٍ له من الضياع والاندثار...
في قسنطينة، ما زال بعض حضر المدينة العتيقة وفنانوها يتداولون قصةً أقرب إلى الأسطورة عن هجرة جماعية عبْر البحر يُرجَّح أنها كانت قادمة من الأندلس، وتحديدا من مدينة مَالَقَة (Malaga)، لجوءا من محاكم التفتيش.
ويبدو أن هؤلاء اللاجئين جاؤوا إلى قسنطينة بمحض الصدفة بعد مرورٍ بجيجل قبل أن تتقاذفهم أمواجُ ورياحُ عاصفةٍ هوجاء إلى شواطئ خليج مدينة القلّْ في شمال شرق البلاد. ولا يوجد ما يدعم هذه القصة من الشواهد المادِّية سوى أحد الأزجال القسنطينية العتيقة يعود إلى تلك الحقبة يُنسَب إلى صاحبه عبد المولى الذي وصف تفاصيل معاناة هذه المغامرة البحرية الخطيرة وما واجهه رفقاؤه الرُّكَّاب من أهْوالٍ قبل الرَّسْو اضطراريا في القُلّْ...
ومن بين ما يقوله عبد المولى في هذا الزجل الذي يحمل عنوان "يَا قَوْمْ كَيْفْ الاحْتِيَالْ":











شوهد المقال 1849 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك