مخلوف عامر - جديرٌ بأن يُقْرأ Le Rocher de Tanios- Amin Maalouf
بواسطة 2015-06-04 17:56:58

د.مخلوف عامر
ربما كان دعاة الفن للفن على حق حين رفضوا أن يقع في السوقية والابتذال ولو أن منهم من قصدوا أن يبقى حكْراً على نخبة متعالية. كما كان خصوم الواقعية والالتزام والبنيويون من النقاد يسعوْن إلى انتشال الأدب من التقريرية والفجاجة. ولكن لا يمكن بأية حال أن نعاتب من كان تحت وطأة الاستعمار ولم يَر في الأدب إلا رسالة تنويرية أو تحريضية .
واليوم، وبعد كل الذي أُلِّف عن أدبية الأدب شكلا وتخييلاً، فإن الكتابة الأدبية لا تنجو من بصمات الواقع. وهو ما يشهد به واحد من كبار الروائيين المعاصرين(أمين معلوف).
ففي روايته(جرْف تانيوس)يصرح في البداية أن القرية التي نشأ فيها، يتداول أهلُها حكايات سعى إلى أن يتثبَّت من صحَّتها. فقضى فترة من الزمن يسأل الشيوخ ويراجع الروايات إلى أن عثر على مخطوط من 1987 صفحة. فقرأه بتركيز عدة مرات ثم أعاد كتابته وترجمه بعد ذلك. وقد كان هذا المخطوط يُشكل المادة الأساسية التي انطلق منها ليُحلِّق في عوالم من التخييل.
(لامية)، المرأة التي يتردد اسمها على سائر الألسنة، حاول أن يقترب منها ومن زوجها المقتصد لدى الشيخ الذي يهيْمن على القرية من قصره. وكل سكانها يتقرَّبون منه، يُقبِّلون يديْه ويخدمونه رجالا ونساءً. فأما "تانيوس" فوليد غير شرعي. لأن الشيخ يستغل غياب المقتصد، بل يُغيِّبه عمداً لينفرد بـ(لامية) ذات يوم حيث لا حيلة لخادم ولا لخادمة في أن يتخلَّصا بسهولة من ولي نعمتهما.
لكن الكاتب لا يبقى في حدود المخطوط الذي يستشهد ببعض فقراته من حين لآخر، بل يوفر للقارئ مخزوناً من المعلومات التاريخية عن الصراع بين المصريين والعثمانيين والإنجليز والفرنسيين في عهد (محمد علي)، وعن الموالين والمعارضين أيْضاً. وهو التوجه الذي يتميز به (أمين معلوف) في سائر رواياته (ليون الإفريقي، سمرقند، حدائق النور...).
إنه يلتقط ما يشبه اللغز المحير عن هذا الجرْف الذي حذَّروه من الاقتراب منه وهو صغير، ولعله الجُرْف الوحيد الذي يحمل اسم شخص. فيختاره عنواناً للرواية لأن قصة (تانيوس) هي ذاتها قصة محيرة تستحق أن تُكتب.
إذا كنتُ أعتمد على هذه الرواية، لأعبر عن فهمي للعلاقة بين الرواية والتاريخ، فلأن كاتبها المعروف لا يُنكر هذه العلاقة، إنما حين يُقْدم على كتابة ما يستحق أن يُسمى رواية، فلأنه يميز بين المجاليْن. مجال التاريخ بلغته التقريرية المسطَّحة وبصرف النظر عن مدى صحة الوقائع التاريخية ، ومجال الكتابة الأدبية وما تقتضيه من شروط في مقدمتها الصياغة المتفرِّدة والقدرة على التخييل التي من شأنها أن تجتذب القارئ وتشده إليها منذ البداية ، ولا يُصاب بالملل على مدى 300 صفحة، ويودُّ- فوق ذلك- لو يلتهمها دفعة واحدة، لأنه متيقِّن بأنه يحصل فائدة ومتعة. ولا نجاح لعمل أدبي ما لم يجمع بينهما.
إن كثيراً من النصوص في أدبنا الجزائري لا تخلو من هذه الجاذبية والتشويق وهي تغترف من التاريخ الوطني والإنساني. وربما لم يُقيَّض لأصحابها ما يجعل كتاباتهم تشتهر وتنتشر . لكن المُقْلق فيما أقرأ – أحياناً- أنْ أُحسَّ بأنه وقت ضائع. ولعلًّه كان من الأنسب أن أقول "جديرٌ بأنْ يُرمى".
وإني أميّْز-ها هنا- بين كاتب مبتدئ يستأهل السند والتشجيع وآخر يعيش على طفرة من الشهرة الأولى. كما أحاول أنْ أميِّز بين مَنْ أتوسَّم بذوراً من الإبداع فيما يكتبون، وآخرين يتهافتون على الكتابة الروائية بوصفها جنساً صار يختزل الأدب وجسراً للبحث عن مكانة أدبية مفقودة.
هناك –طبعاً- مَنْ سيقول: دَع الأيام تُغَربل أو يقول: "ما يبقى في الوادي غير حجاره" فالزمن كفيل بأن يُفْرز الجيد من الرديء. كل هذا صحيح. لكن الذي يقرأ بعض روائع الأدب العربي والعالمي ولا يستطيع أن يتبيَّن حدوده، فسيكون متطفِّلاً على الأدب بالتأكيد.فأما إذا كان لا يقرأ أصلاً فهي محنة أخرى.
التقيت في الفترة الأخيرة مع الصديق الدكتور (بوشعيب الساوري)، وحدثني عن كاتب مغربي له من التجربة في الكتابة الأدبية أربعون عاماً، وكان بصدد كتابة مجموعة قصصية، ولََّما قرأ (بستان الغزال المرقَّط) لـ(إسماعيل غزالي)، لم يجد إلا أنْ يمزِّق أوراقه. فلعلَّه إنسان يعرف قدْره.
ثم إن (مالك بن نبي) حين كتب (لبيك حج الفقراء)، قد استشعر عدم اكتمال الصورة الأدبية لعمله. فهو في رسالته على قِصَرها يُسميها رواية تارة، وقصة تارة أخرى. بل ويعترف صراحة أنها كتبت على عجل، وبها أخطاء تقنية، فيقول: ((إن الرواية التي أتقدم بها إليكم قصة مرتجلة لحج بطليْ القصة، كتبت القصة في غرفة في فندق بين سفرتيْن متقاربتيْن جدا.
فبالإضافة إلى الأخطاء التقنية هناك أخطاء أخرى قد لا يكون مفرٌّ منها، خاصة عندما نكتب في عجالة))ص:24-25
هذا تصريح إنسان معروف ، لا أشكُّ في أنه قرأ أشهر الكتاب الفرنسيين وهو الذي يُتقن الفرنسية، ولكنه عرف قدْره، فغادر الكتابة الروائية واتجه إلى البحث في الإسلام وحال المسلمين.
إن هذا التهافت المحموم على الكتابة الروائية، ما كنت لأتحدث عنه لو أن القضية بقيت فعلاً في حدود الأدب ، لكنها – فيما أرى – أصبحت قضية أخلاقية، ومعالجة الانحراف الأخلاقي لا تُتْرك للأيام. وبإمكان المرء أنْ يعيش حياة جميلة من غير أنْ يكون روائياً. فلِمَ التهافت والتطفُّل؟؟
حين أقرأ بعضاً مما يُسمى روايات أتذكَّر الأغنية المعروفة: (( يا بن عَمِّي ويا بنسيدي ويا خويا ومشِّي غير رواحْ وقولْ دَرْت امْرا)). ورحم الله امرأً عرف قدْر نفسه.

شوهد المقال 1153 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك