إدريس حدد - الرّب و مَشْرَحة السوفسطائيين !

الله جل و علا هو الموضوع الوحيد الذي أكره أن أتكلم فيه أو عنه و أنا فاقد لكامل لياقاتي الإيمانية .. فحين تكون الدرجة الإيمانية تحت مستوى البترول .. لا يجمل بالمرء إلا أن ( ياكلْ عيش ) و يسكت ، كما يقول اشقاؤنا في مصر الإنقلاب ! و لكن .. حينما تقرأ لدوكينز الساخر من فكرة الإله .. لما تمر بشبهات بعض المتقعّرين هنا على صفحات الفايسبوك .. لما تجابهك أسئلة من حيارى و متشككين .. تجد نفسك مضطرا للتكلم عن الله .. حميّةً .. حميّةَ إنتماء ، حميّةَ ، فكرةٍ أنت تتبنّاه و تؤمن بها .. و البون شاسع جدا بين كلام الصوفي حين يتكلم على من ملك جنبات قلبه و بين متقعّر مثلي .. يجابه بكلامه المتقعّرين !
يسخر الملحد و اللا أدري حين يناقش متديّنا .. من رب كل إنشغالاته شعائر فرضها على عباد ليسوا سوى دود حقير في كونه المترامي الأطراف .. من رب خلق الأكوان المتعددة بمجراتها إلى ذراتها ، من رب يفهم الرياضيات بعمق و يمارس الفيزياء بدقة بحيث مجال الإرتياب في دقته معدوم .. و كل همّه أن يغطي شعر المرأة و يجلد الزاني و يعاتب المراهق على الزلل و الخطأ ! أي رب تافه هذا الذي كل شغله أن يسجّل حركات و سكنات ذاك الدود البشري .. ليختم مسرحيّته بتقسيم الفصل إلى ناجح و راسب .. ككل المعلّمين البؤساء !
و أما إذا جاء أحد الربوبيين ليرضِهم .. لا و حاشا ربّنا أن يكون بسيطا لهذا الحد .. صحيح أن ربنا خالق الكون و لكنه في عليائه لا يهتم لا بشرائع و لا بدعاء و لا بـذنوب و لا بخطايا و هو أعظم من يجلس كقاض يفصل في خصومةٍ موضوعها ، شبرُ أرض بين جار و جاره .. !
قالوا .. هو رب أناني إذن ؟ .. نعم ، أناني و جبان .. و عبثي .. ! أناني ، لأنه لا يعبأ بجراحات خلقه و لا بأمنياتهم و لا بإنشغالاتهم ! جبان .. لأنه لو كان شجاعا لتحمّل مسؤولية الشر الذي نجم عن ما صنعته يداه ، و عبثي لأنه .. لمّا كان لا يهمه أمرهم .. فـلماذا ( أتعب نفسه ) و خلقهم ، إذن ؟
إذا ما إنشغل الله بطلبات عباده و سمع نداءهم و استجاب لدعائهم ! و حذر ظالمهم و شجع محسنهم .. هو تافه و سخيف ! و أما إذا ما أدار للكون ظهره و لم يشغل نفسه بتلك ( الأمور التافهة ) .. سيكون جبانا و أنانيا و عبثيا ! هل لهذا الرب - عند السوفسطائيين - من مفر ؟ .. كلا لا وزر !
أي رب دكتاتور هذا .. الذي يستعرض عضلاته على أناس لا حول لهم و لا قوة .. بالنسف و الخسف و الغرق ؟ فيتباهى بجبورته .. بقوله .. فجعلنا عاليها سافلها .. و في موضع آخر .. فأغرقناهم أجمعين .. و في موضع ثالث .. فأهلكناهم فلا ناصر لهم ( * ) !
و أمّا إذا ما أمهل الرب ( بشّار البراميل المتفجّرة ) و ( إسرائيل الأباتشي ) و أعطاهم من الأجل فسحة و حرّية .. انتفضوا .. أي رب متوحش هذا الذي يتلذذ بدماء الأطفال و بآهاء الأرامل و عذابات المساكين .. و لم يرمش له جفن و لم يحرك له طرف .. لا لإنقاذهم و لا لنجدتهم .. ألم نقل لكم أن ربكم المزعوم هذا .. ميت و ( في ستّين ) ميته ؟
إذا ما تدخّل الرّب تدخلا مباشرا بعذاب سماوي على الظالمين .. هو دكتاتور و حڤار و متجبّر ! و إلا كيف يجعل نفسه ندا لذاك الدود البشري ، ثمّ .. ما معنى أن يعطني هذا الرب الحرّية و بما فيها حرية الظلم .. ثم .. يقصني من مسرح الحياة بعذاب من عنده .. ألم نقل لكم أنه دكتاتور ؟ .. و أمّا إذا ما جعل نواميسه الكونية تسري بما لها من قوانين العلّية و غيرها .. هو رب لا مبالي بآهات الضعفاء و بعذابات المقهورين ! هل لهذا الرب - عند السوفسطائين - من مفر ؟ .. كلا لا وزر !
في مقطع من المقاطع الوثائقية .. شاهدت معركة وحشية بين أسدين ضخمين يتنازعان فيها عن موقع إستراتيجي في أرض من الأسقاع الإفريقية .. و يقول المعلق على ذاك الفلم الوثائقي ، أن هذه المعركة غالبا ما تنتهي بالموت ! و عادة ما يقتل المنتصر كل عائلة المهزوم من أشبال .. و جاء المقطع الذي قطّع قلبي و دمعت له عيني و قلت في سري بيني و بين نفسي .. لماذا يا الله ؟ .. مقطعٌ .. يصور انقضاض الأسد المنتصر بكل وحشية على شبل صغير غاية في الجمال و الأناقة و البراءة ! المبكي في الأمر ، أن ذاك الشبل بما أودع الله فيه من غرائز كان يحاول بمخلبه التي تشبه الأظافر .. أن يدافع عن نفسه .. !
يقول دوكينز في أكثر من موضع من كتاب ( وهم الإله ) إن الإيمان بنظرية التطور الداروينيّة بعمودها الفقري .. و هو الإنتخاب الطبيعي .. لا تزيد وعينا في علم الأحياء فقط ، بل تشطح بوعينا لفهم هذا الكون و لهذه الحياة في جميع مجالاتها .. كوزمولوجيّا و أحيائيا و جيولوجيا و تشريحيا و طبيا .. إلخ !
و بما أني أؤمن بما لا يؤمن به .. أنا أزيد على جميل ما قاله في هذا المقطع .. كما أن هذه النظرية تعرفنا على طريقة و كيفية خلق و تكوين هذا الرب لمخلوقاته ذاك التكوين الذي بدأ بخلية عمياء وحيدة و أنتهى ( و إن كان لم ينته ) بهذا الإنتواع الهائل جدا جدا من المخلوقات و الكائنات المركبة و المعقدة جدا ، هي تشطح بخيالنا و وعينا - أيضا - لإدراك .. كيفية معاملة الله لهذا الكون الذي نحن فيه ، بما هو كون .. صبر لا حدود له ، تدرج لا حدود له ، إمهال لا حدود له ، تؤدة و سمكرة لا حدود لها ، تطوير و إرتقاء لا حدود له ، عناية و مراقبة لا حدود لها ، دقة في المراقبة لا حدود لها .. إن الإيمان بنظرية ( التطوير الذي وراءه عين تراقب و وعي ساري ) .. تعطيك تصوّرا واضحا جدا .. أن هذا الرب ليس أبدا بملول ، ليس أبدا بنزق و عجول ، ليس من شأنه في هذا العالم التدخل السريع و الإستعجالي ! هي سنن تتحرك بدقة و بتؤدة و مراقبة عجيبة و بصرامة متناهية ، فليس لي في هذا المقام إلا أن أقول و قد - اقشعر بدني اقسم بالله - سبحان ربي الأعلى الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى ! فهو القائل : و خُلق الإنسانُ من عجل ! و كان الإنسان عجولا !
سؤال يثور من فوره الآن في ذهن القارئ .. لماذا ؟ سقتُ هذا المقطع من قول رتشارد دوكينز الملحد و ما أوحاه لي كلامه كمؤمن و حشوته هنا .. في هذه المقال المخصص لسفسطة السوفسطائين و المشرحة التي يشرّحون فيها ذات الله كل مرّة ؟ .. بكلمة واحدة ، أقول .. ذلك أن جل تلك السفسطة ناجمة عن أمر واحد و هو .. وعينا و ادراكنا المحدود جدا عن حقيقة هذه الحياة كما هي قبل مجيئنا و عن الكون بما هو كون قبل خلقنا و عن الله و صرامة سننه التي أودعها في كونه و بثها في خلقه و نحن لا نزال في ظهر آدم عليه السلام .. !
و كما أنه من المعلوم أن لا دواء للسفسطة الحربائية التي تتلوّن كل مرّة بلون يليق بمقام النقاش و الجدال ! فيغدو الرب عندهم تارة سخيفا إذا ما اهتمّ و تارة أخرى أنانيا و عبثا إذا ما أدار لهذا الكون ظهره ، تارة دكتاتورا إذا ما عذب و لا مباليا إذا ما رحم و أفسح ! لكن ما رأيكم ؟ إذا ما قلت أن لهذه السفسطة إجابة شافية من منظورنا الإسلامي و القرآني .. !
يقول الله جل و علا .. و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها ! إن الناظر في التسع و التسعين إسما من أسماء الله تعالى سيجد أنها ! تتشكل في غالبيتها من قطبين متقابلين .. هو ( الظاهر ) و ( الباطن ) معا ، هو ( الجبار ، المتكبّر ) و هو ( الرؤوف ، الودود ) في نفس الوقت ، هو ( القهار ) و ( الوهاب ) جميعا ، حين يكون ( القابض ) هو في ذات الوقت ( الباسط ) ، و هو ( الخافض ) و ( الرافع ) ، هو ( المعزّ ) و ( المذلّ ) معا ، هو ( المنتقم ) و ( العفوُّ ) ، هو ( المقدّم ) و ( المؤخّر ) ! السرّ كل السّر .. في ، على ( من ) و ( متى ) و ( أين ) يتجلى الله على خلقه أفرادا و جماعات .. بتلك الأسماء لا بما يقابلها ، السؤال المطروح بدل تلك السفسطة الفارغة يكمن في البحث عن القانون الذي يحكم تلك الأسماء ! متى يكون ذاك الرحيم .. منتقما ؟ و متى يكون ذاك المنتقم .. عفوا غفورا ؟ ، متى يكون الرافع خافضا ؟ و الخافض رافعا ؟ .. متى يتجلى الحق على عبده بإسمه المعزّ و متى يجابهه بإسمه المذل ؟
الجاهل لذاك القانون الصارم الذي يحرك تلك الأسماء و يقلبها .. سيرى في إسم القوي .. تعجرفا و في إسم الودود ضعفا و سخفا .. سيرى في المنتقم دكتاتورا و في إسم العفو .. لا مبالاة و تفريطا .. و تستمرّ المهزلة ما استمرّ السوفسطائيُّ في صنع إله على هواه .. يغضب لغضبه ، و يرحم لرحمته ، و ينتقم بإنتقامه و يرضى برضاه .. و ينزق بنزقه !
أعرفُ أن هذا المقال من أوله إلى آخر يفتح الباب على مصراعيه .. على تلك الجدلية القديمة المتعلقة بالخير و الشر .. في هذا العالم ! و لا أزعم أن لي جوابا شافيا .. و لكن لي محاولة فهم لما نراه من شرور و دماء و مخالب .. أرجو أن أوفّق في سبكها في مقال قد أعنْوُنه بـ ( ملعب الحياة ) !
( * ) : و أنا أكتب هذا المقال ، عقدتُ رهانا بيني و بين نفسي .. ذلك أني أؤمن أنّ لهذا القرآن دقّة لا تخطئ موضعها .. خلاصة هذا الرهان .. هي أن الله لا يهلك قوما لأنهم فقط لم يؤمنوا و لم يقتنعوا بما جاءهم به رسولهم بل لأنهم ظلموا و تسلطوا و تجبّروا و أضطهدوا ثلة المؤمنين ! و ذهبتُ مباشرة أقتفي أثر هلاك الأمم في سورة هود .. التي في آخر فصولها يقول رب العالمين ( و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم و أهلها مُصلحون ) لا كما يدعي بعض المتقعّرين ( و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم و أهلها مؤمنون ) .. !
شوهد المقال 1450 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك