محمد شوقي الزين - دريدا عرفاني؟ بين الرغبة والضرورة.
بواسطة 2014-11-29 15:54:16

جزء من مداخلة عنوانها: "جاك دريدا وميشال دو سارتو: الافتتان بالعرفان ووعود الكتابة" (الملتقى الدولي: "دريدا ومعاصروه: تراث، ترجمة، تفكيك"، قصر الثقافة، تلمسان، 26-27 نوفمبر 2014). البقية عندما تُنشَر أعمال الملتقى.
في الصورة: إلى جانب فرانسوا دوس وأمين الزاوي.
_________
هل يمكن للتفكيك والعرفان أن يكونا متوافقين؟ في كتابه «دريدا والثيولوجيا»، استطاع فرانسوا نولت (François Nault) توضيح المفترضات اللاهوتية عند دريدا، أو ما سماه «بقايا لاهوتية»، متوارية، تنظّم النص الدريدي مثلما أن التفكيك يعمل على استثمار اقتصاد النص اللاهوتي. هل يمكن الحديث عن تقاطع (كياسم) بينهما حيث يتداخل الثيولوجي والتفكيكي في حقل التفكير نفسه؟ تعود المباحث الدينية عند دريدا بشكل بارز أو خفي. لكن أكثر من الديني، هل ثمة مفترض عرفاني في نصوصه؟ في مداخلة قيّمة عنوانها «غيرية الآخر بشكل آخر: على خطى جاك دريدا» ، قام فرنسيس غيبال بالإشارة إلى البُعد العرفاني الممكن اكتشافه عند دريدا. يقول: «إذا كان بالإمكان إيجاد صبغة ”عرفانية“، فبشرط تحديد أنه عرفان المنطلق والهجرة (exode)، وليس عرفان الحلول والعودة إلى الواحد»، معتمداً في ذلك على تعريف دو سارتو للعرفان. فالعرفان كما جاء في تحديد دو سارتو يشتمل على طريقة دريدا في الرؤية والتقصي، ويمكن تعداد بعض الجوانب العرفانية في الهجرة والتَشتُّت (السفر أو المنفى)، في الرغبة (أو النقصان والفقدان)، وأخيراً في ما لا يمكن تسميته أو المسكوت عنه في شكل قرار غير حاسم: «ليس هذا» (ce n’est pas ça).
استطاعت الأسئلة والأجوبة على مداخلة فرنسيس غيبال أن تدقّق هذا النزوع العرفاني لدى دريدا، لكن دائماً بتحفّظ دريدا بإلصاقه بأيّ نوع من العرفان، حيث قدّم ملاحظة هامة بقوله: «طبعاً بلا شك هناك الافتتان بالغياب. ولا أصف هذا الافتتان أو الولع بكلمات سيكولوجية أو وجودية، ولكن يمكن فعل ذلك. إن الشيء الذي يشبه الافتتان في عملية الكتابة أو في عملية التفكير، هو الطور أو النمط الأساسي لدافع الإثبات» . وفي تدخّل آخر، يعبّر دريدا عن رفضه لكل نزوع عرفاني بقوله: «أقول شيئاً آخر بالنسبة للعرفان. إذا أخذنا هذه الكلمة في معناها المبتذل، في شكل تجربة في الحضور والاتصال والحدس، أقول بأني أبعد ما يكون عن العرفان وأقل ميلاً نحو العرفان حتى وإن كنتُ أحلم بذلك». لكنه يُدرج فارقاً طفيفاً وأساسياً عندما يقول: «لا أقول بأنه ليس لديّ ذوق عرفاني، ولكن ثمة ضرورة تحكم حياتي في مجملها هي غريبة تماماً عن العرفان في دلالته المبتذلة. لا أتذكّر حرفياً تعريف دو سارتو للعرفان، ولكن عندما سمعته، قلتُ في نفسي: ولم لا؟ وسنكون كثيرون على قوله أيضاً والانخراط فيه» .
لِـم لا إذن ما دام دريدا يقصد العرفان في دلالته المبتذلة التي هو بعيد عنها، وربما هو قريب من الدلالة التي وضعها دو سارتو. التمييز الذي أقامه دريدا يفصل بشكل حاسم بين الرغبة والضرورة. فهو يقول أيضاً بأن هناك «حرباً شعواء» بينهما. لكن، أليس في كل حرب أو صراع تحالف ضمني في شكل تواطؤ الأضداد تبعاً لفكرة نيكولا الكوسي العريقة حول «تواقت النقيضين» (Coincidentia oppositorum)؟ لا نتكلم هنا، بطبيعة الحال، عن وحدة متعالية تستغرق الاختلافات بتذويبها، ولكن بتحالف يجعل النقائض تحتفظ بفرديتها وتعيّنها، وهذا يقترب من المخطط المضاد للهيغلية عند دريدا وهو الاختلاف المرجأ (différance).
في النقاش حول مداخلة ستانسلاس بروتون (Stanislas Breton) «الاختلاف، العلاقة، الغيرية»، أجاب دريدا عن تساؤل غي بوتيدومانج (Guy Petitdemange) حول المغزى من "الحرب الشاملة" التي نعت بها دريدا الاختلاف الراديكالي بين الرغبة والضرورة، أو بين العرفان والبرهان قائلاً: «جاك دريدا، إن الشيء الذي أثار انتباهي في تدخلكم هو قولكم "بين الرغبة والضرورة هناك حرب شاملة". إذا فهمتُ المقصود من قولكم هذا، فالضرورة عندكم هي في أصل كل فعل في التفلسف وأصل كل كتابة» . كانت إجابة دريدا بهذه الكلمات: «من الصعب أن نرتجل في هذه الأسئلة. أؤاخذ نفسي أنني تفوّهتُ بكلمة حرب. في "البطاقة البريدية" (La carte postale)، استعملتُ كلمة ضرورة بالحرف الكبير Nécessité، وكأنها إسم عَلَم، ليس لأن أجعل منها شخصاً أو أمثولةً، لكن لتبيان أن الضرورة هي دائماً ضرورة شيء فريد. إنها حدّ قائم على توسُّع الرغبة أو عملية الامتلاك، حد يحدّده الآخر كآخر، بوصفه حامل إسم عَلَم – أنها حاملة إسم عَلَم – بوصفها مفهوماً. بوقوفي عند هذا الحد، فإنني أكتب وأحاول أو أفكر» .
غير أن دريدا يضع كشرط عدم إمكان الرغبة هو نفسه شرط إمكانها. فالرغبة تتواجد في هذه المفارقة كونها تفتقد شيئاً (الرغبة بالتعريف هي فقدان manque) وفي كونها لا تعرف التوقف (إحالة، استحالة بمعنى التحوّل، اللانهائي، إلخ). يقول دريدا عن نفسه بأن يكتب تحت وطأة الضرورة أو قانون الضرورة ويشبّه هذه الضرورة كاسم عَلَم له شخصه، بالمعنى نفسه الذي جعل ابن عربي من الحروف أمة من الأمم. فالضرورة هي فضاء محصور يحدّد الفانتاسمات الجامحة للرغبة قصد التهديء من دافعها الملتهب. عندما كتب ابن عربي «ترجمان الأشواق»، كان ذلك تحت وطأة الحال والرغبة؛ وعندما كتب «ذخائر الأعلاق» لشرح الترجمان، كان ذلك بقلم الضرورة المفهومية لتبيان المقصود من الرموز المستعمَلة، خصوصاً وأن بعض الرموز من الترجمان كانت محط هجوم وتشنيع من طرف الفقهاء. تفسير الرموز أملته الضرورة في وضع الحدود النظرية وتأشير الأرضيات المفهومية قصد تحويل الجسدي إلى روحي أو تبيان أن الرموز المحسوسة تحيل، في حقيقة الأمر، إلى معطيات معقولة أو متعالية.
عندما كان ابن عربي يقصد بقصيدته «الترجمان» "الأيقونة" ليحيل بها إلى شيء آخر غير الحس المبتذل، كان أعداؤه يرون فيها "الأيدولة" التي لا تحيل إلى شيء آخر سوى إلى ماديتها الفظة. يعود ستانسلاس بروتون إلى ملاحظة دريدا قصد الفصل في بعض الأشياء الملتبسة بقوله: «أعتقد أنني فهمتُ بأن ثمة نوعين من العرفان: "العرفان التوحيدي" (hénologique) (سليل الأفلاطونية المحدثة ويغلب على روحانية المعلم إكهرت)؛ و"العرفان التشتيتي" (diasporique). أعتقد أن هذا العرفان التشتيتي، أقل إقامة وأكثر تيهاً، هو الذي كان يقصده دو سارتو في كتابه "الحكاية العرفانية"» . هذا التمييز بين العرفانين حاسم ويسهّل عملية وضع دريدا في العرفان التشتيتي، العرفان البيني أو الفاصل، في اخلاف راديكالي عن العرفان التوحيدي، المختزل للفروقات والاختلافات، والشمولي.

شوهد المقال 2175 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك