أبو يعرب المرزوقي -- رسالة الإستئناف الإسلامي واستراتيجيته

تأكد الآن بخلاف ما تنبأ به هيجل (فلسفة التاريخ الباب الرابع العالم الجرماني الفصل الثاني: الإسلام) أن الإسلام لم يخرج من تاريخ العالم بل عاد إليه عودة ذات زخم لا يماثلها إلا نشأته الأولى في قرنها الأول: انتشار كمي وكيفي في كل المعمورة بحيث إن وجود المسلمين في العالم بقاراته الستة بات من مقوماتها الأساسية ديموغرافيا وحضاريا.
ولعل المميز الأساسي لهذه العودة لتاريخ العالم هي أنها عودة تعيد إليه ما أفقدته إياه انحرافات الحداثة وتحريف قيمها في العولمة التي صار بعدها الروحي في خدمة أساسها الوحيد أي بعدها المادي وأصبح التشكيك في سمو الإنسان على الحيوان بالأديان إلى حد جعل هذا السمو من الأوهام فسيطرت النزعات الكلبية على أدعياء التفكير العقلاني الذي يرتد إلى الشرع الحيواني شرع الغاب بين فاقدي الألباب.
لم يعد العقل نهى دالا على رفعة الإنسان بل أصبح أداة لا يكرم بها الإنسان بل يهان. فمجرد اعتبار البعد الروحي منه تعبير عن نقائص البعد المادي (يمين الماركسية) والظن بأن كمال الإنسان في نفي ما يتعالى عليه ردا إياه إلى الحياة الدنيا مهما كملت (يسار الماركسية) يعد من الادلة القاطعة على الانحطاط الوجودي المؤسس لكل ما عداه من الانحطاطات التي يجمع بينها مفهوم قرآني هو مفهوم الإخلاد إلى الأرض: ويتمثل في اعتبار جوهر الإنسان مقصورا على طينته الخالية من النفخ من الروح الإلهي. ومعنى ذلك أن الإسلام بعودته يعيد إلى الإنسانية توازنها دون أن ينفي عن منجزاتها ما يمثل الشرط الضروري للوجود الإنساني الشرط الذي ما يزال بحاجة إلى الشرط الكافي.
فاستعمار الإنسان في الأرض يشترط ضرورة كل المنجزات العلمية والتقنية التي بلغت الذروة في الحضارة الحديثة (العلوم وتطبيقاتها: ثمرة مجهودات كل التاريخ الإنساني حتى وإن بدا العصر الحديث أكثر مراحله إنجازا فيها) لكن وجود الإنسان أسمى من أن يقتصر على ذلك. فهو مستعمر فيها بشرط استخلافه عليها أي بقدر تحرره من تحويل الوسائل إلى غايات: العلوم وتطبيقتاها والحضارة المادية شروط في سلطان الإنسان على الطبائع والشرائع لكنها تتحول إلى حط من منزلة الإنسان الوجودي إذا فقد الإيمان بسلطان يعلو عليه يحول دونه والاقتصار على الفساد فيها وسفك الدماء.
وهذا الإيمان رمز إليه القرآن الكريم بشرط أهلية آدم للاستخلاف عندما ميزه بالقدرة على التسمية التي هي في آن القدرة الترميزية المشروطة في التواصل بين البشر والاتصال بالكلمة الخالقة أعني شرط الحياة الاجتماعية التي لها صلة بالمطلق إيمانا بما يتعالى على الحياة البهيمية رمزا إليها بالأكل كما تأكل الأنعام.
فالأخوة البشرية واستعمار الإنسان في الأرض بمنطق الاستخلاف عليها بمعنى عدم الإخلاد إليها وإيمان القرآن بتعدد الأديان وحرية التدين تعني خسمتها أن المعمورة كلها ينبغي أن تكون موطن جماعة متآخية تتقاسم خيراتها لكأنها ذات دولة واحدة. لماذا؟
غاية الاستئناف هي تحقيق هذين الشرطين للأخوة البشرية والاستراتيجية هي كل ما يجعل ذلك مضمونا للرسالة الإسلامية في المستقبل بحيث تكون رسالة المسلمين لبعضهم البعض ولغيرهم رسالة شروط المواطنة العالمية المتساوية في الحقوق والواجبات تقاسما لخيرات الأرض التي ما تزال خاضعة لمصادفات الجغرافيا ولمنازل الإنسان في المجتمع التي ما تزال خاضعة لمصادفات التاريخ حتى تزول أسباب التنازع بين البشر أعني حتى يخرج البشر من منطق التاريخ الطبيعي (الصراع الحيواني من أجل البقاء للأقوى) ليصبح خاضعا لمنطق التاريخ الخلقي: التعاون على البر والتقوى والتواصي بالحق والتواصي بالصبر.
تونس في 2014.11.22
شوهد المقال 1100 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك