فوزي سعد الله
وُلِدَتْ مدينة البليدة من رَحِم المعاناة الأندلسية/الموريسكية وشهدت النور إثر "حادثة مهمة هي وصول 7 آلاف لاجئ أندلسي إلى شواطئ المنطقة استقدمهم خير الدين باشا بأسطوله في إطار حملات النجدة التي كان يقوم بها..." يقول الباحث الممتاز في جامعة البليدة مصطفى أحمد بن حموش موضحا أنهم "...تعرضوا بعد وصولهم إلى الإقليم الجديد إلى مضايقات شديدة من قبائل جبل شَنْوَة، وذلك ما دفع الشيخ سيدي أحمد الكبير للهَبِّ إليهم والاتصال بهم واستقدامهم إلى مكان إقامته الذي تَحَوَّلَ مع الزمن إلى مدينة صغيرة" . لكنها كانت، حسب الضابط الفرنسي تْرُوملي مدينةً من الخيام والأكواخ، نظرا للظروف البائسة التي وَجَدَ أنفسَهم فيها هؤلاء الموريسكيون الذين كانوا ما زالوا يحتفظون بمفاتيح ديارهم وقصورهم الأندلسية بأحلام ولو ضعيفة في العودة إليها ذات يوم . وقد "استغل الشيخ سُمعتَه لطلب العون من أعضاء القبيلة (المحلية Ndlr) لإقامة مستوطنة للمهاجرين الأندلسيين" يضيف مصطفى أحمد بن حموش قائلا إن القبيلة "سعدتْ بذلك (…) ووَضعتْ كل أراضيها تحت تصرفه (…)، لكن الشيخ (…) اكتفى، حسب قول الضابط تْرُومْلِي، بقطعة قريبة من مقامه تصلح لإنشاء تلك المستوطنة" المطلة على الضفة اليُمنى لوادي الرُّمَّان في سهل المتيجة.
تزامن مسعى سيدي أحمد الكبير مع تعيين خير الدين بربروس رسميا من طرف السلطان العثماني بيلربايا على جزائر الغرب خلال مراسم رسمية في إسطنبول.
وبمجرد عودته من الباب العالي بتعليمات واضحة من السلطان بشأن سياسته الخاصة بالمسألة الأندلسية واللاجئين الأندلسيين/الموريسكيين، توجَّه خير الدين "سيِّد البحار"، على حدِّ وَصْفِ تْرُوملي ، في كوكبة من رجاله وفرسانه مرفوقا بنجله حسَن من "دار السلطان" في مدينة الجزائر إلى وادي الرُّمَّان عند قبيلة أولاد سلطان لملاقاة رجل مثقف ومتديِّن من أهل التصوُّف وملمّ بفنون الرَّي والفلاحة ويحظى باحترام لا نظير له في المنطقة حيث كان زعيمها الروحي الأكبر، وهذا الرجل، الذي نُسِجتْ حول ورعه وتقواه وحول قدراته الغيبية، خصوصا في تطويع مجاري المياه والسواقي والأنهار بما يحيي الأراضي الموات ويحولها إلى جنات، هذا الرجل لم يكن سوى سيدي أحمد الكبير نفسه الذي سوف يُصبح بعد وفاته أحد أبرز أولياء المتيجة الصالحين بعد أن بُني له ضريح ما زال موجودا إلى اليوم .
هذه الزيارة التي اعتَقَدَ الناسُ حينذاك أنها "مجرد زيارة تبرُّك" كانت في الواقع الحجر الأساسي لميلاد مدينة البليدة ونواة السياسة الجزائرية الأندلسية التي اعتَمدتْ، على غرار ما فعل الباب العالي في مختلف أقاليم الإمبراطورية العثمانية، على الإدماج الفوري الاجتماعي – الاقتصادي للاجئين الأندلسيين/الموريسكيين من جهة، وإشراكهم في العمليات العسكرية البحرية والبرية ضد الاعتداءات الإسبانية على السواحل الجزائرية وفي عمليات إنقاذ وإسناد الموريسكيين الذين بقوا في إسبانيا من جهة أخرى.
النظام الجزائري الجديد كان يعتمد في بسْط سلطته وتثبيت حُكمه على الارتباط بالزعامات الروحية والأعيان المحليين، بمن فيهم شيوخ الطُّرُقية الذين كان جزء هام منهم من المدجَّنين اللاجئين من إسبانيا فارين من قهر محاكم التفتيش الكاثوليكية. وكانت هذه الغاية من دوافع اللقاء الحاسم في وادي الرّمان بين خير الدين وسيدي الكبير، الذي يُنسَب هو ذاته إلى الوافدين حديثا من "الفردوس المفقود" ، لتوفير الدَّعم لسياسة إدماج أهل الأندلس في المنطقة وتيسير قبولهم من طرف السكان المحليين الذين كانت قبيلة أولاد سلطان أكثرهم كثافةً ونفوذا.
وانتهى لقاء باشا الجزائر وسيدي الكبير الذي دام بضع ساعات بإقطاع خير الدين أراضٍ للأندلسيين/الموريسكيين في المنطقة وتقديم مساعدة مادية لهم، إضافةً إلى منحه سيدي الكبير الغطاء المالي الضروري لبناء نواة المدينة التي ستُعرَف إلى اليوم بـ: "البليدة"، عاصمة سهل المتيجة.
وشُيِّدتْ هذه النواة الحضرية، التي وُلدتْ أندلسية/موريسكيةً خالصة، بميزانيةٍ سمحتْ ببناء مسجد جامع وفُرْن وحَمَّام شهدوا النور بعد عامٍ بسواعد البنّائين والمهندسين المعماريين الموريسكييين المحليين، حسب الضابط تْروملي ، وهي البُنَى التحتية التي شَكَّلتْ تقليديا عِمادَ الحواضر الإسلامية آنذاك وعمودها الفقري .
حدث اللقاء بين الشيخ والقائد العثماني عام 1535م، مثلما يؤكد الفرنسي تروملي والجزائري مصطفى أحمد بن حموش ، وتكللتْ جهود بحَّار جزيرة ميدلِّي السابق، الذي ولاَّه الجزائريون شؤون بلدهم، بالنجاح في إحدى أول وأبرز العمليات الكبرى لتوطين الهاربين من محاكم التفتيش الإسبانية في الجزائر.
وأصبحت البليدة منذ تلك الفترة مدينة يشكل الأندلسيون/الموريسكيون نصف سكانها على الأقل إلى غاية القرن 19م، وذلك حتى بعد أن تعرضت للتدمير بفعل زلزال عام 1825م ، فضلا عن تحوُّلها منذ لقاء القائد العسكري البيلرباي خير الدين بربروس والمثقف الصوفي سيدي أحمد الكبير، الذي فارق الحياة بعد 5 أعوام في 970 هـ/1540م من هذا الحدث التاريخي الحاسم، إلى قاعدة عسكرية إستراتيجية وما زالت كذلك إلى اليوم.
وبعد عقود معدودات، تحوّلت البليدة إلى إحدى أجمل وأغنى الحواضر الجزائرية بعبقها الأندلسي وثقافتها الموريسكية الرقيقة وبيوتها وقصورها،التي شُيِّدت على النمط الإيبيري/الإسلامي، الشبيهة بديار مدينة الجزائر العتيقة، التي تلتف حواليها الأزهار والياسمين والريحان والجلنار التي تتحول بين أنامل نسائها إلى أحلى وأرقى العطور في العالم وإلى أجْوَد مُستحضرات التجميل...
وذاع صيت مدينة سيدي الكبير في كل القطر الجزائري وخارجه بِحِرَفِهَا وصنائعها على غرار بعض مراحل صناعة الشَّاشية والصِّباغة وصناعة الزلِّيج الذي زُيِّنتْ به جدرانُ الدِّيار والقصور والعيون العامة. وتَحَوَّلَتْ أحراشُها والضواحي المحيطة بها، بعد تحويلٍ ذكيٍّ لمياه وادي الرُّمان من طرف سيدي الكبير وتطوير تقنيات استغلالها على النمط الأندلسي، إلى جناتٍ وبساتين وضيعات مروية بالسواقي والنوريات ويُضرب بها المثل إلى اليوم في رقي فنون الفلاحة وتطويع الأرض والطبيعة. وأحدثت نهضة زراعية واقتصادية في كامل سهل المتيجة امتدت إلى بلدتيْ بوفاريك والشَّبْلِي وما جاورها، ومَوَّنَتْ بخيراتها حتى العاصمة الجزائرية التي لا تبعد عنها سوى بحوالي 50 كلم.
ومازالت البليدة تُعرَف باسم "مدينة الزُّهور" و"البليدة الوْرَيْدَة"، ويُضرَب المثل بخُضَرِها وفواكهها وعصيرها وحتى بحلوياتها على غرار زَلاَبِيَّتها التي ما زالت إلى اليوم تحتل الصدارة من حيث الجودة والتنوُّع والرَّواج. وكانت البليدة في أوج ازدهارها وعزها أرضا تكثر فيها الأشجار المثمرة كحب الملوك (الكرز) والإجاص والتفاح وخاصة البرتقال والعنب..."، وكثر فيها "إنتاج الخُضار...التي حسَّن الأندلسيون أنواعَها وطَوَّرُوا زراعتَها" كما فعل غيرهم من الأندلسيين والموريسكيين عبْر كامل أنحاء البلاد التي وطأتها أقدامهم.
وقد تحققت هذه المعجزة بفضل مهارة فلاحي بلنسية والأراغون ذوي التقاليد العريقة في ممارسة الفلاحة الذين استوطنوا أرض أولاد سلطان وسيدي الكبير.
ولا شك أن سيدي أبي مدين شعيب الإشبيلي الأندلسي دفين تلمسان لم يُخطئ ولم يبالغ حينما قال عن أهل الأندلس:
تحيا بكُم كل أرض تنزلونَ بها كأنَّكُم في بقاع الأرض أمطــــــــــــــــــارُ
وتشتهي العين فيكُم منظراً حســـنا كأنَّكُم في عيون الناس أزهــــــارُ
ونورُكُم يهتدي الساري لرؤيتهِ كأنّكُم في ظلام الليـــل أقمـــــــــــــارُ
لا أوحشَ اللَه ربعا من زيارتكُم يا من لهم في الحشا والقلب تذكــــارُ
وهي أبيات ما زلنا نتغنى بها إلى اليوم في البليدة والجزائر وقسنطينة وتلمسان، وفي كل بقعة من أرض الجزائر تهوى الغناء والطرب الأندلسي...
ضريح سيدي يعقوب الأندلسي البليدة






التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك