سعيد لوصيف ـ الذكاء الجمعي و مأسسة المجتمع المفتوح ، يدحضان خطابات الكراهية و يكشفان مشاهد الاستعراض...

د. سعيد لوصيف
أعتقد أنّه من اخطر الإشكالات التي ينبغي أن ننتبه إليها في أي مشروع تحول مجتمعي وسياسي، هي قدرتنا على تجاوز إرهاصات مجتمع الاستعراض الذي تحدث عنه Guy Debord في ستينيات القرن الماضي. و لا يمكن اختصار مفهوم الاستعراض في مجرّد صور مشهدية تبث عبر التلفزيون أو بث فيديوهات عبر وسائل التواصل الاجتماعي ، وإنّما ينطبق المفهوم على المشهدية الشاملة للحياة الاجتماعية، التي يرى فيها Guy Debord أنّها عبارة عن تراكم لاستعراضات. فالاستعراض هو قبل كلّ شيء ابتعاد عن المعاش المباشر و الفعلي للأفراد و انحصاره في تصوّرات وتوهّمات ذاتية، كثيرا ما يعتقد خطئا أنّها تمثّل حقيقة اجتماعية. ولا يطرح Guy Debord فكرة الاستعراض كنقيض لفكرة الواقع، وإنّما يطرحها كنقيض للمعاش النفسي الاجتماعي، وتعبيرا عن ظاهر الحياة الاجتماعيةّ. فالاستعراض هو كل صورة أو كل تصوّر يطرح كبديل للمعاش النفسي الاجتماعي و الوجود.
و مهما يكن، فإنّني في هذا العرض السريع لا أقصد بمجتمع الاستعراض هيمنة الثقافة الاستهلاكية و طغيان المشاهد الإعلامية وتأثيراتها في بناء الحقائق الاجتماعية في المجتمع، و إنّما استخدمه مجازا للدلالة من الناحية النفسية الاجتماعية، على انتشار التكلّف، والافتعال، و الزيف، و التغليط في العلاقات الاجتماعية، و بالضبط في الفعل والاتضال السياسيين و علاقة المثقفين أو أولئك الذين يدّعون النضال بأفراد المجتمع وعلاقاتهم بعضهم ببعض (أو ما يعرف أيضا في الفكر الإسلامي بالتقية : أي بمعنى أن يظهر الشخص خلاف ما يبطن). فالاستعراض يشير في هذا السياق إلى طغيان الظاهر في الفعل والسلوك، وكبت الحقائق و صور الذات الحقيقية في اللاشعور وتسويق صور مغلوطة عنها.
إنّ الاستعراض بهذا الشكل يتحدّد كتزييف منظّم وظاهر للمعاش النفسي الاجتماعي. وضمن هذا المعنى، يظهر أنّ مجتمع الاستعراض هو النقيض الفكري لأي مشروع مجتمعي يقوم على الشفافية والمصارحة و الالتزام، أو ما أسماه Popper بالمجتمع المفتوح. فمن غير المعقول أن نؤسس لخطاب يقوم على نقد فقدان الثقة بين الجزائريات و الجزائريين والنظام، وفي الوقت ذاته ننتهج مقاربات عمل وممارسات في شكل تواصل مشهدي عبر شبكات التواصل الاجتماعي توحي في مضمونها أنها تحمل حقدا وبغضا دفينا غير معلن، و إظهار صور عن الذات مراوغة تتشكل في ممارسات استعراضية من شأنها أن تفشل لاحقا مشروع التحول المجتمعي والسياسي الذي يصبو إليه أغلب الجزائريات والجزائريين، وذلك لعدّة أسباب موضوعية أهمها التمركز حول الذات ونرجسيتها في بناء العلاقات. وفي هذا السياق، فإنني لا ينتابني شكّ من أنّ الذكاء الجمعي للجزائريات والجزائريين هو كفيل بإفشال نرجسيات الذات و جنون العواطف والزيف في علاقات بعضنا ببعض. إنّ شفافية الذات و تفتحها على الآخر و"احتضانه" في عالمنا، و الولوج الذكي لعالمه هو شرط من شروط التحوّل، وهدف من أهداف بناء المشروع الديمقراطي المنشود، بعيدا عن الاشتباه، و الريبة والحقد وخطابات الكراهية أوغيرها من الاتجاهات والمواقف النفسية الاجتماعية التي تبطل التواصل والتفاهم والبناء انطلاقا من المصارحة وشجاعة المواجهة بالعقل و الفكرة بعيدا عن الكذب على الآخر والذات.
شوهد المقال 397 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك