مخلوف عامر - العامية لدَعْم العربية: توْصية لا ضرورة لها

د.مخلوف عامر
في الواقع ما كنت لأثير هذا الموضوع ولا لأعود إليه لولا خشيتي من جدل عقيم ونحن على أبواب موْسم دراسي جديد. لأن قضية اللغة من الحساسية بحيث لا ينتظر انتهازيو السياسة المغشوشة إلى مثل هذه الفُرص ليُنعشوا بها خطاباتهم المستهلكة البئيسة. وقد يتسبَّبون في اضطرابات نحن في غنى عنها.
فقد أوضحت السيدة وزيرة التربية في حوار لجريدة الخبر اليوم: 6 أغسطس 2015 أن ما جاء بشأن استعمال العامية كان مجرد توصية فهي تقول :
((هذه التوصية طرحت خلال ورشتين داخل الندوة الوطنية. ورشة الطور التحضيري وورشة لمناقشة الطور الابتدائي. التوصية انطلقت من الواقع، وهو عدم التحكم في اللغات الأساسية. هناك عدم فهم بعض المصطلحات لدى التلميذ، وهو ما يمكن أن يؤدي إلى الفشل المحتوم. ما تم التطرق إليه خلال الورشتين كون الطفل يأتي برصيد لغوي، ولما يدخل في التحضيري فإن المطلوب أن يعتمد المربي على الرصيد اللغوي للطفل لتحضيره بصفة تدريجية لتعلم اللغة العربية المدرسية التي سيدرس بها، أي أن العامية هي وسيلة تواصل في البداية، حيث تمكن التلميذ من التواصل في السنتين الأولى والثانية ابتدائي، غير أنها لن تعوض في أي حال من الأحوال اللغة العربية التي تعتبر لغة التدريس))فـ ((الدستور والقانون التوجيهي للتربية يؤكدان استعمال اللغة العربية الفصحى كلغة تدريس)).
ثم تضيف : ((لقد لاحظنا أن كثيرا من التلاميذ يعيدون السنة الثانية الابتدائي، ويمثلون قرابة 10 بالمائة من مجموع التلاميذ، وهي نسبة كبيرة)).
ما يعني أنَّ عدم التواصل بين المعلِّم والتلميذ هو الذي أدَّى إلى نتائج سيئة، وأن التواصل كان يتمُّ بلغة يستعصي فهمُها على التلميذ ولا يمكن أنْ تكون غير "الفصحى" في هذه الحالة. فإذا كان هذا ما انتهى إليه التشخيص، فإنه تشخيص خاطئ تترتَّب عنه-حتْماً- اقتراحات خاطئة.
فالحوار المشار إليه، من الوضوح والصراحة بحيث لا يستدعي التشكيك في النوايا. فالقضية كلها تدور حول جعل العامية رافداً يدعم التلميذ في التحضيري وفي السنتيْن الأولى والثانية ليتدرَّج في اكتساب اللغة العربية وألا يُحس بالغربة إذا حدَّثه معلِّمُه بالفصحى. ثم إن السيد الوزيرة –كما يُفهم من هذا الحوار- لم تنفردْ بهذا الرأي لتفرضه على الناس ، وإنما تؤكِّد أنه رأيٌ مستخلص من عمل وَرْشتيْن شارك فيهما أساتذة جامعيون وباحثون. وهذه ظاهرة صحِّية أن يُستشار المعنيون من أهل الخبرة والميدان في عملية الإصلاح، كما هي من أوْجه الممارسة الديمقراطية إنْ أردنا التعبير السياسي.
لكن ما يدعو للعجب أن يجتمع هؤلاء الباحثون والجامعيون ليخرجوا بنتيجة هي تحصيل حاصل زيادة على أنها تنحرف عن طرح المشكل الحقيقي. توصية تخصُّ الاستعانة بالعامية في البدايات.
فالذي نعرفه أنَّ المعلّمين منذ الاستقلال بدءاً بالمُمَرِّنين فالمساعدين إلى آخر حلقة من الترقية في هذا السلك، والذين لا نملك إلا أنْ نقدِّر جهودهم المضنية في النهوض بالمدرسة من العدم،لم نجدْهم يوماً يُحدِّثون تلاميذ التحضيري والسنوات الأولى بلغة الشنفرى وامرئ القيس وابن هانئ الأندلسي. وربما لم تسمح لهم الظروف -أصلا- بمعرفة لغة هؤلاء ومفردااتها الحوشية الصعبة من قبيل ما يقوله الشنفرى:
دَعَسْتُ على غَطْشٍ وبَغْشٍ وصُحْبَتِي سُعارٌ وإرزيزٌ ووَجْرٌ وأَفْكَلُ
أو قوْل ابن هانئ:
أصاخت فقالت وقع أجرد شَيْظَم وشامت فقالت لمع أبيض مِخْدم
لقد كان المعلمون ومازالوا ينطلقون من اللغة المتداولة تلقائياً في تعاملهم مع المبتدئين. فإذا استعمل المعلم: (تكلَّمْ-اسكت-تعال-امْشِ- لا باس ، صباح الخير- هات- شاف –يشوف-اخْزن-أوقَفْ-اقْرَ-يجري-تعبان- نعسان-مليح- صحيح-يكتب-خزْنة- خزانة- حيط- حائط) وغيرها كثير)، فهذا من المشترك بين العامية والعربية.
وأكاد أجزم –بالنظر إلى كثير من المسلسلات العربية التي نشاهدها-أن تكون العامية في الجزائر أقرب إلى "الفصحى" من غيرها. ولعلَّ ذلك يعود إلى أن الجزائريين جعلوا من اللغة وسيلة لمقاومة الاستعمار والتشبًّث بعنصر أساسي لحفظ الهوية مُدَّة طويلة من الزمن.
في المرحلة الابتدائية، قد تكون الألفاظ عامية ومع ذلك تبدو غريبة على الطفل، لأنه لم يعهدها من قبل ولم يستعملها في محيطه الضيق. فالمسألة نسبية ولا يمكن القطع فيها لا بتوْصية ولا تعليمة مادام معمولاً بها في الواقع المدرسي منذ نشأته. لذلك فإنها توْصية لا ضرورة لها، إنْ لم يكن ضررُها أكثر من نفعها.
فإذا ما أخذنا الأدوات المدرسية مثالاً، فإن معظم الأطفال يكتشفونها للمرة الأولى في المدرسة ويعرفون تسمياتها مُطابقةً لوظيفتها كالمحفظة والقلم والمسطرة والمقلمة والممحاة وقلم الرصاص، اللهم إلا إذا كنَّا نفضِّل استعمال(الكَرْطاب واسْتيلو والريقْلة ولاتْروس ولاقوم والْكريُّون) ممَّا ليس من العربية ولا الأمازيغية ولا الفرنسية الخالصة.
إنَّ ما أراه جديراً بالبحث والإصلاح في الطور الابتدائي هو الحجم الساعي وطبيعة النشاطات المبرمجة والمادَّة المُقدَّمة للطفل من حيث كثافتها ومدى مناسبتها لنضجه النفسي والعقلي وما يحمله الطفل من أثقال في محفظته حد الإرهاق، وضرورة تكوين المكوِّنين بيداغوجياً، لا بسدِّ الفراغ باستخلاف جامعيين لم يتلقَّوا تكويناً جدِّياً لممارسة التعليم في هذه المرحلة الصعبة والمصيرية.
إن الغاية من تكوين المربِّي ليس بأن يصبح مؤهَّلاً لتحضير دروسه وحسب، بل أن يكون قادراً أيضاً على التعامل مع طوارئ لم تخطر بباله مسبقاً أثناء التحضير. فإذا هو امتلك كفاءة المزاوجة بين الموقفين: -المتوقَّع والطارئ- فإنه سيدرك تماماً متى يسترسل في الحديث بالعربية ومتى يلجأ إلى الاستعانة بالعامية.
ثمَّ إن ما يجب التنبيه إليه والعمل على تداركه ، هو العكس تماماً. إذْ السائد حالياً هو التدريس بالعامية. والمحنة أن هذه الظاهرة تتعدَّى الابتدائي إلى المتوسط والثانوي وحتى التعليم العالي. وهي ظاهرة لا ينكرها إلا غريب عن القطاع أو مَنْ يتبنَّى خطاباً ديماغوجياً لأغراض أخرى لا علاقة لها بإصلاح المنظومة التربوية.
وهذا-بالتحديد- أيْ تفشِّي استعمال العامية في تدريس اللغة العربية ذاتها، ناهيكم عن بقية المواد-هو ما حملني على أنْ أقول في نص سابق "لا للعامية ولا للتعقيد".
ولم يبقَ لديَّ- أمام هذه الوضعية- إلا ثلاثة احتمالات:
*إما أني مخطئ يستلزم تصحيحي، وبلا حرج
*وإما أن هذه التوْصية مصدرها جهلٌ
*وإما أن في الأمر نيَّتة مبيَّتَة.
علماً بأنَّ الجهل سينقاد إلى النيَّة المبيَّتة. وفي هذا فلْيجْتهد المجتهدون. عفْواً، سيجتهد الوطنيون المخلصون للوطن. سلامي ومودَّتي.
شوهد المقال 1236 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك