سعيد لوصيف ـ كيف "ينبغي" أن نفهم اللحظات التاريخية في تحوّل المجتمع و ثورته السلمية؟

د. سعيد لوصيف
أشير في البداية، أنّني أسجّل المسعى الحالي في كتابة هذا النص المقتضب، ضمن موقف فكري يهدف المساهمة في دفع الحوار المجتمعي بين الجامعيين والمثقفين وكل أفراد المجتمع، رغبة في بلورة تصّور يرسم ملامح جزائر جديدة تقطع نهائيا مع ثقافة الإقصاء، والاحتقار و النرجسية. و عليه، فإنّني أعتقد أنّ اللحظات التاريخية لتحوّل الشعوب والمجتمعات ينبغي أن لا تشكل لدى النخب محطّة فقط أو حالة ظرفية عابرة، للتعبير عن الذات، أو التنديد أو التموقع ...الخ ؛ و إنما ينبغي اعتبارها على حدّ تعبير Bakounine "زمنا للتفكير".
إنّ الحرية الإنسانية تتحقق ضمن وعي متواصل في التاريخ، باعتباره سيرورة ترسم معالمه الشعوب التوّاقة لهذه الحرية و الانعتاق من ويلات الشمولية كفعل ثوري. ومن هذا المنطلق، فإنّه يتعيّن علينا فهم الحرية التي يطالب بها الشعب الجزائري في مسيراته منذ 08 أشهر ، بأنها حرية تطرح نظريا فكرة السيادة الشعبية التي ما فتأت تتكرّر في عدد من الشعارات التي حملتها الثورة السلمية. ومن جهة أخرى تشكل محاولة تثبيت اختيار سياسي يتعلق بضرورة بعث سيرورة "تفكيك" لنظام سياسي وآليات "إدارة" أظهرت فشلها في تحقيق طموحات هذا الشعب ، بل و أصبحت تشكل خطرا على النسيج الاجتماعي واختلال التوازن بين مكوّناته.
و قد يخطأ عدد من الجامعيين أو "النخب" التي تعتقد أنّ ما تسمّيه "الشارع" ، هو مجرّد حشد لا يعبّر عن وعي وخطاب سياسيين، و أنّ هذا "الشارع" يقع على هامش هذه "النخب" ذاتها و على مسافة بعيدة منها.
و الحقيقة المرّة في نظري - و استسمح القارئ بالقول هنا - أن هذا الطرح لا يعدو أن يكون إلاّ امتدادا للنظرة المتعالية التي أظهرتها السلطة الفعلية تجاه ديناميكيات الثورة السلمية و أولئك الذين ما انقطعوا عن التعبير عن رفضهم لمثل هذا الاحتقار في مسيرات حاشدة رافعين شعارات سياسية بامتياز. وعليه، فإنّني اعتقد خلافا لهؤلاء أن هذا "الشارع" (الحشد) هو أصلا يشكل نواة سياسية، وكيانا دينامكيا لمشروع سياسي لا ينبغي الاستخفاف به. فالمطلوب منّا هو الاعتراف بفشلنا، و محدودية أدواتنا المنهجية، و أن تكون لنا الشجاعة أيضا في إعادة التفكير في أدوات تحليلنا للحقائق الاجتماعية لبعث أدوات جديدة تمكّننا من التناغم مع التحوّلات السوسيولوجية (حتى في بساطتها) التي ظهرت لدى هذا الكيان السياسي (الشارع/الشعب).
وحتّى وإن ظهر هذا المسعى صعبا، فهو ليس طوباويا أو يعبّر أن ذكاء زائد في فهم الحقائق؛ بل أعتقد أنّه يبقى ممكنا من خلال دمج حالة التقارب الديناميكي لمفهوم الصراع المجتمعي، في مقاربات التحليل السوسيولوجي، بغية التمكين للحل التوافقي على المستوى السياسي ان يتشكل و يتأسس، ويصبح ميثاقا يربط علاقات مكوّنات المجتمع وفعالياته المختلفة، بهدف تحقيق سيرورة تحويل هياكل الدولة، والنظام الاجتماعي و نسق الهيمنة والاستغلال.
و مهما يكن، وحتّى تتمكن الثورة السلمية من تحقيق الأهداف "الاستراتيجية" للتحول، فلابدّ أن تحافظ على ديناميكيات التناغم بين الأطياف المشكلة لها من جهة، و ديناميكية "الرفض السلمي " "للتوافقات" الفوقية الهيكلية من جهة ثانية، وأخيرا أن تسعى إلى محاولة الانتقال من علاقة غير منظمة بين مجموعات شعبية إلى بلورة نشاط دائم ومهيكل بينها، يتأسس على أهداف سياسية واضحة. وبهذا المعنى ينبغي أن يشكل منتهى الثورة السلمية الحالية مشروعا سياسيا بديلا يقع خارج أدوات السلطة وأجنداتها التي تسعى من خلالها لإعادة إنتاج النظام وأساليب إدارة الدولة و المجتمع.
إن أي فكر صادق بالمعنى الأصيل يحوي أصلا في محتواه على متطلبات أخلاقية تجاه المجتمع؛ يسعى المثقف والجامعي من الاستجابة لها وترجمتها في انشغالات فكرية يعبّر عنها في طرح الأسئلة الهادفة تساعد هذا المجتمع على التحوّل . كما ينبغي أن يتجه أي تحليل سياسي للظواهر والديناميكيات المجتمعية، إلى ضرورة الأخذ بعين الاعتبار البعد الذاتي في فهم الواقع وسلوكيات الأفراد باعتبارها ذوات واعية. وبالفعل، فإذا كانت لدينا الرغبة في فهم جيّد للواقع السياسي الجزائري ومتغيّراته، يكون من الضروري بمكان أن نهتم بالذاتيات التي تشكل هذا الواقع.
إنّ محاولات الفهم الموضوعية الممكنة لهذه التحولات، تتطلّب منّا ضرورة إعادة قراءة هذا "الشارع" في كليته وأبعاده السوسيو- سياسية، من خلال ثلاثة أبعاد مفتاحية :
1. البعد التحرّري (الذي كثيرا ما يتردد في شعار: "الشعب يريد الاستقلال"، كمثال لا للحصر). مع العلم ، فإنّ أي مطلب للتحرّر والانعتاق ينبغي أن يحمل في طيّاته شروط تحقّقه ومواجهة كل ما من شأنه أن يعترض تحقيق هذا المطلب ؛ ونعني بها مواجهة كل أشكال الهيمنة على المجتمع ومؤسساته.
2. البعد المرتبط بالانتقال الديمقراطي السلمي ورفض كل أشكال الهيمنة.
3. البعد المرتبط بالعدالة الاجتماعية و إقامة دولة الحق والقانون (وهو ما ظلّ يتكرر في عدد من الشعارات التي ترفض منطق العصابات). فالديمقراطيات الحديثة تتميّز بالضمانات التي تحققها للحريات الفردية و الجماعية، و باعتماد القانون كنمط للتعديل والضبط للتنظيم السياسي للدولة.
شوهد المقال 987 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك