الطيب برغوث ـ كلمة وداع لصاحب الجهاد الثلاثي الأبعاد الشيخ عباسي مدني رحمه الله
بواسطة 2019-04-27 21:04:08

د. الطيب برغوث
تلقت مؤسسة السننية للدراسات الحضارية اليوم 24 أبريل 2019 نبأ وفاة المجاهد الكبير الشيخ الدكتور عباسي مدني رحمه الله، بمستشفى الدوحة بقطر، ببالغ التأثر والرضى بقضاء الله وقدره، بعد معاناة طويلة مع المرض، ومع السجون، ومع الإقامات الجبرية، ومع الغربة، ومع الحصار الإعلامي، دون أن يتزحزح قيد أنملة عن مبادئه وقناعاته في إقامة دولة جزائرية ديمقراطية في إطار المبائ الإسلامية، التي عاش وجاهد من أجلها وهو ما يزال في ريعان شبابه المبكر.
فاللهم اغفر له، وارحمه وعافه، واعف عنه، وأكرم نزله، ووسع مدخله، واغسله بالماء والثلج والبرد، ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأبدله دارا خيرا من داره، وأهلا خيرا من أهله، وأدخله الجنة، وقه فتنة القبر وعذاب النار. ولا تحرمنا اللهم أجره ولا تفتنا بعده.
إن الشيخ عباسي مدني ومهما اختلف الناس معه، فإن أحدا لا يستطيع أن ينكر بأن الرجل يحتل مكانة كبيرة في التاريخ الجزائري المعاصر، سواء بانخراطه المبكر في الثورة العملاقة التي حررت الجزائر من الوجود الاستعماري، وبمرافقته لعمالقة الثورة وخاصة ديدوش مراد وابن مهيدي اللذان يذكرهما باستمرار، ويتخذ منهما ومن غيرهما قدوة له، أو بمشاركته المباشرة في عمليات تفجير الثورة في أول نوفمبر 1954، أو بسجنه والحكم عليه بالإعدام مبكرا، أو بجهاده التعليمي التربوي الذي وصل فيه إلى أعلى رتب الشهادات العلمية وهو كبير السن، أو بانخراطه في جمعية القيم بعد الاستقلال، أو بمغادرته جبهة التحرير الوطني في السبعينات من القرن الماضي وانتقاده لها، أو بمساهمته في حركة الصحوة الروحية والاجتماعية التي عاشها المجتمع الجزائري في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، أو بقيادته لأول تجمع جماهيري ضخم في الجامعة المركزية بالعاصمة سنة 1982 ، أو بتأسيسه للجبهة الإسلامية للإنقاذ التي شكلت منعطفا حاسما في تاريخ الجزائر المعاصرة بعد الاستقلال، بما ترتب عن وجودها وحركتها من تحولات ضخمة ما تزال تداعياتها المباشرة وغير المباشرة تتوالي حتى اليوم.
إن الشيخ عباسي مدني ومهما اختلف الناس معه، يظل من معادن الرجال الفحول، ومن جيل العمالقة الكبار، ومن المؤمنين بدور المجتمع أو الشعوب في حركة التاريخ، إذ أنه كان متشبعا حتى النخاع، بنظرية "القوا بالثورة إلى الشعب فإنه سيحتضنها " التي أخذها من رفيق دربه العملاق بن امهيدي رحمه الله، التي أخذها بدوره من أستاذه العملاق مصطفى بن بولعيد الذي كان يقول بالشاوية " سكَّر أتكر " أي اطلقها تنطلق! وهو ما طبقه الشيخ عباسي مدني في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات من القرن الماضي، حينما رجع من بريطانيا، وانخرط في حركة الصحوة، وعمل على إعطائها أبعادا أجتماعية أوسع من الأبعاد التنظيمية المحدودة التي كانت تتبناها بعض الجماعات الحركية في تلك المرحلة.
وبعد انتفاضة أكتوبر 1988 جاءته الفرصة ليطبق هذه النظرية، فأسس الجبهة الإسلامية للإنقاذ وأطلقها للشعب، فالتف حولها الشعب وخاض بها غمار أول تجربة ديمقراطية حرة في الجزائر سنة 1990 - 1992 ، لكن ضيق أفق بعض النخب السياسية والعسكرية النافذة، أجهض هذه التجربة في تحقيق الانتقال الديمقراطي، وأدخل البلد في حرب أهلية مأساوية، ما زالت تبعاتها ومظالمها تضرب المجتمع الجزائري حتى الآن، وتشكل السبب الرئيس للهبة الشعبية العظيمة التي جاءت لتصحيح المسار والأوضاع، وتنقية البلد من العفن الشامل الذي يعيش فيه منذ عقود من الزمن، ويعطل نهضته الحضارية.
رحم الله تعالى هذا المجاهد الكبير الذي عمل على تحميل الشعب مسؤولية التحول الحضاري في المجتمع الجزائري، بإدماجه في الاهتمام بالشأن العام، ولا شك أنه مات سعيدا، لأنه رأى الشعب قبل وفاته، يتحمل هذه المسؤولية فعلا، ويتحرك لاستعادة روحية وأخلاقية وفعالية المرحلة الثانية من ثورته الكبرى، التي انطلقت في أول نوفمبر 1954، وانكسر عنفوانها ومسارها بعد الاستقلال بفترة قصيرة، ولم تحقق هدفها الرئيس بالشكل المطلوب، وهو إقامة دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية.
هنيئا لكم يا شيخ عباسي مدني جهادكم الثلاثي الأبعاد، الذي لم يحظ به إلا قلة؛ جهاد الثورة الكبرى، وما أدراك ما الثورة الكبرى! ثم ما أدراك ما الثورة الكبرى! وجهاد بناء دولة جزائرية ديمقراطية اجتماعية في إطار المبادئ الإسلامية، وما أدراك ما جهاد بناء هذه الدولة، في زمن الاغتراب والاستلاب الثقافي المحكم، الذي كانت فيه صلاة المثقف والشاب تخلفا وظلامية وتهمة أحيانا ! ثم جهاد الغربة وما أدراك ما جهاد الغربة، الذي لا يعرف ثقله وقيمته إلا من عانى الغربة وذاق مرارتها!

هنيئا لكم ذلك كله، ثم هنيئا لكم هذه الخاتمة، فقد قدِّر لكم أن تعيشوا اللحظات الأخيرة من حياتكم، والجزائر تشهد هبة شعبية عظيمة، عملتم لها أنتم طويلا، وحلمتم بها كثيرا، وأبليتم من أجلها بلاء حسنا، سيذكره التاريخ المروي للأجيال، والتاريخ الكوني كثيرا.
إن الله تعالى شاءت حكمته وإرادته أن يكرمكم بهذه البشارة العظيمة، فودعتم الدنيا وأنتم تحملون للشهداء بشارة عظيمة، مفادها أن الشباب الجزائري قد ثار على نفسه وعلى وضعه، وقرر استعادة روح نوفمبر وأخلاقيته وعنفوانه وطموحه، وتحرير الجزائر من الاستلاب الثقافي والحضاري، واستنقاذها من الهدر الذي تتعرض له إمكاناته وقدراته، واستكمال مسيرة بناء الدولة الجزائرية الديمقراطية الشعبية الحقيقية في إطار المبادئ الإسلامية، التي جاهدتم واستشهدتم من أجلها، ونلتم ثوابكم العظيم عند الله تعالى، الذي وعدكم به في قوله سبحانه: ( وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ . فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ )[آل عمران: 170 ، 169].
وداعا أيها الجزائري المسلم الفحل الصميم، الذي كان يؤمن حقا بقدرة الشعب على التغيير، ويثق في ذلك إلى أبعد الحدود، ويراهن على ذلك كثيرا. وقد صدق الشعب الجزائري وفي طليعته أجيال الشباب، هذه الرؤية الاستشرافية الجديرة بالتأمل والدرس والتأصيل السنني.
وداعا أيها المفكر الخبير، الذي كان يؤمن في الوقت نفسه بالأهمية القصوى للنخبة الرسالية، التي هي روح الشعب وعقله وحكمته وقوته التنفيذية التي لا معوض لها.
أذكر أنه وبالرغم من حماسته العارمة لدور الجماهير في الهبات والتغييرات الكبرى، ومراهنته عليها كثيرا، إلا أن ذلك ما كان ينسيه أبدا الدور المحوري للنخب الرسالية في تحقيق أهداف التغييرات الكبرى، والمحافظة على منجزاتها، فقد سمعته مرة وهو يقول لبعض الشباب الجامعي: دعونا نسير أمامكم، فنحن جيل نوفمبر بمثابة " البارشوك " الذي يحميكم من الصدمات المميتة، فأنتم أمام قوى مضادة لروح نوفمبر وأخلاقيته ومقاصده، وحافظوا على أنفسكم لمعارك البناء القادمة.، وكأنه يتمثل قول الإمام عبد الحميد بن باديس هو يقول للشباب الجزائري:
يا نشئ أنت رجاؤنا و بك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها و خض الخطوب و لا تهب
وارفع منار العدل والإحسان واصدم من غصب
واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
اللهم تقبله في عبادك الصالحين، واحشره مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، ووفقنا جميعا لنمضي بكل صدق وإخلاص وحكمة وثبات واحتسابية وقوة وعزيمة، على الخط الذي مضى عليه جيل نوفمبر العظيم، ونكمل تحقيق أهداف ثورة نوفمبر العظيمة في بناء دولة جزائرية ديمقراطية شعبية حقيقية في إطار المبادئ الإسلامية، وبناء كتلة مغاربية كبيرة قوية، تتحرك متساندة نحو تحقيق نهضتها حضارية المنشودة.
تروندهايم في: 24. 04. 2019 النرويج
شوهد المقال 1267 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك