نجيب بلحيمر - الملائكة والقاسية قلوبهم !
بواسطة 2015-08-03 01:01:00

نجيب بلحيمر
على بعد كيلوميترات قليلة جنوب العوانة قرية هادئة، تقع على قمة جبل، تطل على مناظر خلابة، جبال، وسد كيسير الجميل، وشاطئ العوانة بجزيرته الشهيرة، هي ليست مدينة، قرية هادئة لا تصلها أصوات المحركات إلا نادرا، هدوء لا يضاهيه إلا صمت القبور. كل شيء هنا جميل لولا سر يعرفه جميع سكان القرية، مكتب بريد حولته الدولة إلى ملجأ يضم عائلتين منكوبتين منذ نهاية سنة 2011، إحدى العائلتين تتكون من شيخ في الخامسة والثمانين، وزوجته في الثمانين، وأخته التي تبدو أصغر من الاثنين، لكنها في العقد الثامن العمر، والثلاثة محرومون من نعمة البصر، والشيخ مقعد.
تحيط بمكتب البريد بيوت القرية المتفرقة، وعلى الجانب الآخر من الطريق مقهى، وإلى جانبه مسجد، يأتي الناس يوميا يؤدون الصلوات الخمس، ويجتمعون كل جمعة يستمعون إلى إمام يخوض في كل شيء، ولا يلتفت أحد منهم إلى مكتب البريد الذي تظل أبوابه مشرعة.. لا حمام، ولا ماء، فقط أربعة جدران وسقف، وثلاثة أنفس لا ينتبه إليها أحد، حتى في أيام العيد لا أحد تحدثه نفسه بأن يقف عند الباب المفتوح ليرى ما يمكن أن يجعل القلوب تلين كالحجارة وليس أكثر من ذلك.
منذ أربعة أعوام يأتي رجال بشكل منتظم من مدينة جيجل، يقضون ساعات مع هؤلاء المنسيين، يعتنون بهم، وينظفون المكان، ويتركونه وقد تحول إلى ما يشبه البيت، لقد جهزوا المكان بمبرد، وجهاز تلفزيون، ويجلبون ما يقلل من المعاناة، وفي كل مرة يعودون يلاحظون أن رواد المسجد، والمدمنين على الجلوس في المقهى لم يفعلوا ولو شيئا بسيطا لهؤلاء البؤساء، وهم لا يخجلون من الجلوس ومراقبة كل ما يفعله هؤلاء الغرباء القادمون من بعيد.
اليوم كنت شاهدا على موت الإنسانية، وعلى خواء التدين، وعلى خراب المساجد، وتحققت من زيف ما ندعيه عن أخلاق أهل القرى والأرياف وطيبتهم.. أقول هذا لأنني لم أكن بحاجة إلى دليل آخر على كذب المسؤولين والمنتخبين والذي يتجلى في هذا الجدار الفاصل بين الواجهة البحرية، حيث الآلاف يمرحون على الشواطئ، وتلك الربوة، إنه جدار ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب.
خلال ساعات قليلة استطاع الرجال، والرجال قليل، أن يبثوا الحياة في المكان، لقد أوقد أحدهم النار وحضر طعاما، وقام الآخر بتنظيف المكان، واعتنى ثالثهم بعمي السعيد ، حلق رأسه وذقنه، وبعد حمام بدأت الابتسامة ترتسم على وجه العجوز، داعبهم جميعا بأغان أستفزت فيهم الفرح فقهقهوا جميعا مثل الأطفال.
أذكر أن المنطقة عرفت ظروفا صعبة إثر عاصفة ثلجية أفقدت عائلات كثيرة المأوى، وفي ذلك الحين عرفت الصحافة كيف تصل إلى أعالي الجبال، وذهبت جمعيات لتوزع الطعام والغذاء على المنكوبين، ولم ينس هؤلاء أن يوثقوا فعل الخير، وينشروا "الدليل" بالصوت والصورة على الفايسبوك وعبر وسائل الإعلام.
مرت أربعة أعوام وصار الأمر عاديا، يمر أهل القرية على مكتب البريد دون اكتراث، ونسيت الجمعيات مصير المنكوبين، ولم يجد المسؤولون المحليون من يفضح كذبهم وبهتانهم، فقط الرجال الذين لا يعرفون الفايسبوك يجدون متعة في خدمة الإنسان سرا وسرا.
شوهد المقال 1190 مرة
التعليقات (0 تعليقات سابقة):
أضف تعليقك